تراجع الهيمنة الأمريكية الواضح وتأثيره على أزمة "إسرائيل"
تواجه أمريكا تحديات اقتصادية وتكنولوجية أمام الصين، وعسكرية أمام روسيا، تسببت في تراجع هيمنتها على العالم، وانعكس هذا التراجع على سياساتها في العديد من الملفات الدولية على صورة فشل عسكري في سوريا واليمن وفشل ديبلوماسي في كوريا الشمالية وإيران وفنزويلا.
ومن جهة أخرى تمر "إسرائيل" بأزمة سياسية في أعقاب فشل نتنياهو بتشكيل حكومة بعد انتخابات فاز فيها حزبه الليكود. وستجري إعادة الانتخابات في أيلول القادم، ولحين ذلك ستكون الحكومة الإسرائيلية انتقالية أو حكومة تصريف أعمال صلاحياتها محدودة، وتشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات سيستغرق شهرين على الأقل ما يعني أن حالة الإرباك السياسي داخل "إسرائيل" مستمرة حتى أواخر 2019.
الأزمة التي يعيشها الكيان الإسرائيلي غير مسبوقة: أن يحل الكنيست نفسه والإعلان عن إعادة الانتخابات. وقد عبّر ترامب عن قلقه تجاه ذلك بتغريدة كتب فيها "آمل أن تسير الأمور بيُسر بين أعضاء الحكومة، ما يجعلني وبيبي (يعني نتنياهو) نواصل التحالف القوي بين الولايات المتحدة وإسرائيل". لقد قدم ترامب كل ما يستطيع لإنجاح نتنياهو في الانتخابات، وهذا ليس بالجديد على أمريكا التي كانت دوماً الناخب الأقوى داخل الكيان الإسرائيلي. ولهذا بدا طبيعياً أن يرفع مؤيدو نتنياهو صور ترامب في تلك الانتخابات التي جرت في ٩ نيسان الماضي، وبنتيجتها فاز حزب نتنياهو في الانتخابات للمرة الخامسة بشكل غير مسبوق.
العلاقة الأمريكية الإسرائيلية
تولّت أمريكا دعم "إسرائيل" وحمايتها لتبقى منصة متقدمة لها تهدف إلى إضعاف العرب وتهديدهم دائماً بالحروب تحقيقاً للمصالح الأمريكية. فقط خلال حرب تشرين التحريرية منحتها 2,2 مليار دولار كمساعدة عسكرية طارئة، ومع بداية كل سنة مالية، تهبها ما يعادل 3 مليارات دولار في صورة مساعدة مباشرة. كذلك تزود واشنطن إسرائيل بالدعم الديبلوماسي المتواصل. فمنذ عام 1982 استخدمت أمريكا حق النقض (الفيتو) على 32 من قرارات مجلس الأمن التي تنتقد "إسرائيل"، حتى أنها تدخلت في مفاوضات "كامب ديفيد" وأبدت حرصاً شديداً على مصالح إسرائيل كما صرح أحد المشاركين الأمريكيين1 في تلك المفاوضات: "في صورة أبعد مما ينبغي، قمنا بوظيفة محامي إسرائيل. وعلى النحو نفسه لعبت واشنطن دوراَ رئيسياَ في المفاوضات التي سبقت والتي أعقبت اتفاقات أوسلو بين الفلسطينيين وإسرائيل 1993 م".
كان العدوان الثلاثي على مصر ١٩٥٦م حدثاً مفصلياً أسس لعهد جديد في السياسة الدولية آنذاك، حيث أدان الاتحاد السوفيتي وأميركا ذلك العدوان في مجلس الأمن الدولي وفرضا على القوات المعتدية الانسحاب دون قيد أو شرط وحينها فهموا الموقف كلٌّ بطريقته: بريطانيا رأت أنه من الأفضل سياسة التنسيق مع أمريكا وانتهى الأمر بها إلى تبعية سياسية لأمريكا.
وأما فرنسا فكي تواجه النفوذ الأمريكي فقد تبنّت تأسيس الاتحاد الأوروبي الذي يعاني ما يعانيه اليوم من اضطرابات وأزمة اقتصادية. وأما "إسرائيل" فقد رأت أنها لتحتفظ بالأراضي العربية التي تحتلها يجب أن تضمن حياد أمريكا على الأقل وانتهى بها الأمر لأن تصبح ذراع أمريكا في المنطقة. وقد قام كيسنجر بهندسة علاقة "إسرائيل" بأمريكا وتشبيك مصالح الكيان بمصالح أمريكا حتى باتت خادمة لمصالح أمريكا.
ونتيجة لدرس العدوان الثلاثي حرصت إسرائيل قبيل عدوان حزيران 19٦٧ على استمزاج رأي الرئيس الأمريكي جونسون الذي كان جوابه "إن إسرائيل لن تكون لوحدها إلا إذا قررت أن تكون لوحدها". ففهم الإسرائيليون من ذلك أنهم لن يحظوا بدعم أمريكا إذا بادرت إسرائيل بالحرب لذا كان لا بد لهم من تعطيل عمل سفينة التجسس الأمريكية "USS Liberty" لتبرير عدوانهم على سوريا بالقول إن دمشق هي من بدأت بالهجوم وكي لا تعلم واشنطن مدى نهم "إسرائيل" للاستيلاء على الأراضي العربية من عدوانها في حرب حزيران.
منذ العام 1982 أخذ النفوذ "الإسرائيلي" بالتآكل، وانحسرت سيطرتها جغرافياً تحت ضربات المقاومة حتى انسحبت من جنوب لبنان دون قيد أو شرط في أيار عام 2000. وفي 2005 انسحبت من قطاع غزة بفضل المقاومة الفلسطينية مستلهمة أسلوب المقاومة اللبنانية وقامت إسرائيل بإجلاء مستوطنيها من قطاع غزة ومن مستوطنات أخرى متفرقة في شمال الضفة الغربية.
وحين أعادت الكرة بتكليف من أمريكا وشنت عدوان تموز 2006 فشلت وكانت النتيجة أن فرضت المقاومة معادلات ردع جديدة شلّت حركة "إسرائيل" ومنعت اعتداءاتها على لبنان.
وهكذا باتت "إسرائيل" بعد ستين عام ونيف من النكبة مكروهة من قبل العرب ولم تستطع الأنظمة العربية التي وقعت معاهدات سلام معها كمصر والأردن أن تجعل الشعب يتقبل التطبيع مع إسرائيل.
تنامي قوة الصين أحد مؤشرات تراجع أمريكا
لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية تتصرف وكأنها القوة العظمى في العالم شأنها كشأن كل الإمبراطوريات التي مرت عبر التاريخ، وأصابتها آفة المكابرة والإنكار وبقيت تصر على عدم الاعتراف بالتراجع.
حقيقة الأمر أن حصة أمريكا في الاقتصاد العالمي تتراجع لصالح الصين، التي تعمل بشكل حثيث لإحياء طريق الحرير القديم تحت اسم مبادرة "الحزام والطريق"، وتُحقّق بذلك ملء الفراغ الذي أحدثته الولايات المتحدة الأمريكية بموجب سياسة "أمريكا أولاَ" التي وضعها ترامب.
الرئيس الصيني شي جين بينغ في خطابه خلال افتتاح منتدى "الحزام والطريق" قال: "وفي الوقت الذي تقوم فيه الدول المتقدمة بالانغلاق على نفسها، والتحول نحو الداخل، تعمل الصين على التوسع في الاستثمارات والتجارة عبر العديد من دول العالم، وتسعى لإحياء طريق الحرير بمبادرة الحزام والطريق، لتقديم نموذج الصين كمثال للبلدان والأمم الأخرى التي ترغب في تسريع تنميتها والحفاظ على استقلالها". كما تعهد الرئيس الصيني بتمويل إضافي قيمته 113 مليار دولار للمبادرة التي خلقت حوالي 100000 وظيفة في آسيا الوسطى.
وفي إطار تقييمها للقدرات العسكرية الصينية المتنامية اعتبرت اللجنة البرلمانية الأمريكية في تقريرها السنوي في أواخر 2016 أن قدرات بكين العسكرية تشكل "تهديداً للأمن القومي الأمريكي" وحثت اللجنة أعضاء الكونغرس والشيوخ على اتخاذ عدد من القرارات التي من شأنها منع الشركات الصينية الحكومية من تملّك شركات أمريكية كي لا تستخدمها الصين أداة اقتصادية لتدعم أهدافاً متعلقة بالأمن القومي الصيني.
المثير للاهتمام، أن هذا التقرير جاء بعد عشرة أيام فقط من فوز ترامب بالرئاسة الأمريكية وهذا يدلل على القلق الأمريكي من صعود الصين ومن تحديها للهيمنة الأمريكية.
حدث لأمريكا في خوفها من تنامي المارد الصيني كما يحدث في التراجيديا الإغريقية: العرّافون يتنبؤون لبطل التراجيديا أن مصيبة ستصيبه، فيقوم مع دائرته المقربة بالعمل على إبعاده عن عناصر الخطر الواردة في النبوءة فيؤدي هذا الفعل إلى تسريع وقوع نبوءة العرّافين. إن كل خطوة تقوم بها أمريكا منذ غزو العراق وحتى تاريخه تسرّع من صعود الصين.
ترامب فور وصوله البيت الأبيض عمل على إعادة تموضع الاقتصاد الأمريكي ففرض التعريفات الجمركية والضرائب على أوروبا وكندا والصين، وشن حرباً تجارية على الصين للحد من العجز في الميزان التجاري الأمريكي، ولاستعادة الاستثمارات التي فرت إلى الصين بسبب ارتفاع معدلات النمو فيها مقارنة بأمريكا. وخلال السنة الثانية من رئاسة ترامب أدت سياساته الاقتصادية حسب التقارير الربعية لعام 2018 إلى ما يلي: الربع الأول لم تكن نتائجه جيدة والثاني شهد بنهايته شبه تحسن بعد أن فرض التعريفات الجمركية والضرائب على أوروبا و"الحرب التجارية" على الصين. أما في الربع الثالث فقد تعزز التحسن ولكن بنهاية الربع الرابع بدأ يعود الركود الاقتصادي.
وقد بلغت القوة العسكرية والاقتصادية الصينية حدّاً جعلت مؤلفين أمريكيين3 يعتبرون أن "المحدد الرئيسي وراء استدامة أو انحسار القيادة الأمريكية هو طبيعة مدخلات ومخرجات العلاقات الأمريكية بالصين فإذا نجحت الولايات المتحدة في احتواء الصين وتقييد حركتها وانخراطها في الشؤون الدولية فإنها ستنجح في إدامة عمر قيادتها للعالم، والعكس صحيح فإذا توسعت الصين وتعمق حجم دورها في الصراعات الدولية، فمن استقراء التاريخ يتبين أن القوى الشابة الصاعدة تطرد القوى القديمة العاجزة من القمة وتتولى هي القيادة. ومثلما فعلت واشنطن في الماضي ستفعل بكين في المستقبل".
.مصير طروحات "السلام" الأمريكية:
اليوم الدلائل متعددة على انحسار النفوذ الأمريكي في العالم عامة وفي المنطقة بشكل خاص. فما هي نواتج هذا الانحسار الأمريكي على "إسرائيل"؟ وهل ما تزال واشنطن قادرة على حماية أمن "إسرائيل" وما هو مصير الطروحات الأمريكية بشأن ما يسمى بـ "صفقة القرن" و"الورشة الاقتصادية" التي ستقيمها أمريكا وحلفاؤها في البحرين نهاية هذا الشهر للترويج لتلك الصفقة؟
إن من مصلحة إسرائيل قيام السلام مع العرب لكن أمريكا تمنعها من تحقيق هذا السلام. وفي العام 1995 اغتيل رئيس وزراء إسرائيل آنذاك إسحق رابين وقد اعتبر على نطاق واسع أن ذلك بسبب توقيعه على اتفاقات أوسلو ووادي عربة وتقديمه لما عرف بـ (وديعة رابين) وهي تعهد خطي، أودع لدى وزارة الخارجية الأمريكية، بانسحاب إسرائيل من الجولان السوري إلى حدود الرابع من حزيران 1967.
بعد تيقن ترامب من فشل الحرب الأمريكية على سوريا، رغم كل ما حشدوه ورغم دعم إسرائيل السافر للإرهابيين، كشف عن وجود "صفقة القرن" وأعلن عن انسحاب قواته من سوريا ودعا إسرائيل إلى ضم الجولان.
إن إعلان ترامب تجاه الجولان غير ملزم حتى للرئيس الأمريكي الذي سيخلفه، فأمريكا لها تاريخ طويل في نقض العهود والمواثيق الدولية التي يتم التوقيع عليها. فقد نقض ترامب الاتفاق النووي الإيراني الذي وقع في عهد سابقه أوباما.
فور إعلان ترامب عن صفقة القرن استنكرها الرأي العام العربي بشكل عام والقوى السياسية الفلسطينية بشكل خاص واعتبر الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنها "صفعة القرن".
إضافة لذك فإن كتاباً إسرائيليين لا يعتقدون بجدوى تلك الصفقة فالكاتب بلوتسكر في صحيفة يديعوت أحرونوت5 يرى أن "تاريخ العلاقات بين العرب وإسرائيل يشير إلى أن السلام الاقتصادي اختراع فارغ وذريعة لتجنب القرارات السياسية الحاسمة. وأن صفقة القرن هي عبارة عن مزيج من الخداع والتخبط إذ تم تقديم أحدث خطوة في الصفقة حول الخداع الاقتصادي تحت عنوان (الخطوة الاقتصادية لصفقة القرن التي يرعاها مؤتمر البحرين)"
كما أن 74 بالمائة من الإسرائيليين يرون أن "صفقة القرن" ستفشل، لأنهم ما زالوا يعتقدون أن القدس وقضية اللاجئين الفلسطينيين هي العائق الأكثر صعوبة في الصراع العربي الإسرائيلي6.
ويرى الكاتب إيشان ثارور7 في الواشنطن بوست أن مصير خطة ترامب- كوشنر للسلام هو الفشل.
خاتمة
جهود أمريكا مشتتة اليوم على كامل الكرة الأرضية من سوريا إلى اليمن وإيران وروسيا والصين وكوريا الشمالية وفنزويلا وهي تعاني من المتاعب في كل ملف وصولاً إلى أوروبا حيث عملت جاهدة على مساعدة حليفتها بريطانيا على الانفصال عن الاتحاد الأوروبي على مدار ثلاث سنوات دون جدوى.
التاريخ لا يزال قيد الكتابة والكلمة الفصل في تقييم سياسة أمريكا منذ أحداث 11 أيلول لما تُقل وما تشهده المنطقة والعالم في المدى المنظور سينبئ عن ذلك.
الأدلة متزايدة على أن أمريكا منهكة اقتصادياً وليست في وارد الانخراط في الحرب بشكل مباشر لا بل هي في طور الانكفاء العسكري. فأمامها أحد خيارين: إما إجراء تسويات مرحلية وإما أن تجبر "إسرائيل" على شن عدوان على سورية ولبنان والفلسطينيين.
إن في إسرائيل أصواتاً تهدد سوريا ولبنان بالحرب، ولكن إسرائيل تتهيب الحرب لأنها غير مضمونة النتائج وأي تهور لن يكون على غرار أي شيئ سبق بل سيؤدي إلى زوال الكيان الإسرائيلي من الوجود. والأزمة في إسرائيل هي نتيجة لهذا الإحساس الوجودي بالخطر.
وإذا ما سادت العقلانية لديهم فإن السيناريو الأرجح هو إجراء تسويات مرحلية تلحظ ميزان القوى العالمي الجديد وتنشيط الاقتصاد العالمي الذي أنهك بسبب الحروب المتكررة والمغامرات غير المحسوبة لأمريكا.
إن أمريكا التي خلفت بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية في الهيمنة على العالم حافظت على سيادة قيم الغرب ولكن اليوم سيشهد العالم انزياحاَ لمركز الثقل العالمي نحو الشرق وسينجم عنه تغييرات كبيرة أهمها في القيم. فسيناريو التسويات يعني أننا سنشهد عودة قيم الشرق الحضارية.