هكذا يقتل الغرب نفسه .. لاجئون، إرهاب وليبرالية منظمة
انتشرت الأسلاك الشائكة في جميع أنحاء القارة العجوز، وكأن شعب أوروبا لا يتذكر الجدار سيء السمعة الذي تم تدميره قبل 26 عاماً. بالطبع هناك فرق كبير، ففي ذلك الوقت حتى خلال الغضب الذي اشتد بين الحشود الألمان والذي انتهى بتدميرهم لجدار برلين، بقيت مجموعات من الألمان تعيش على جانبي الجدار بشكل منظم ومستقر لعقود.
لا يوجد اليوم مثل هذا المجتمع المنظم وراء الأسلاك الشائكة التي انتشرت في جميع أنحاء أوروبا. ليس هناك سوى اليأس والكراهية في نظر أولئك الموجودين في المخيمات، وكل هذا نتيجة مباشرة للعنصرية الغربية التي تمثلت بالاعتداءات العسكرية في الخارج والليبرالية المؤسسية في داخل الغرب نفسه. ومما لا شك فيه أن عنصرية الغرب وعدوانه على باقي الدول هو بسبب الليبرالية المؤسساتية في جميع الدول الغربية، وهناك وصف جيد آخر لهذا النظام المتضخم وهو "الشمولية الليبرالية". فيجب أن نفهم أن الظروف البائسة التي يجدها اللاجئون أنفسهم فضلاً عن الأزمة الديموغرافية الضخمة التي تؤثر على الأوروبيين ترتبط ارتباطاً مباشراً بالعنصرية الليبرالية المؤسساتية.
تنتشر الآن حالة توسع لمخيمات اللاجئين تتجاوز الحد الممكن وتتسرب إلى المناطق المجاورة التي يسكنها مواطنون أوروبيون. ونتج ذلك بالطبع بسبب الكوارث التي سببتها الحكومات الغربية عمداً. ويتزايد عدد الحكومات المحلية في ألمانيا مثل تلك الموجودة في هامبورغ ونيهايم وأولبي وبراونسبدرا التي تقوم بمصادرة ممتلكات المواطنين وتُخرج الناس من منازلهم من أجل توطين اللاجئين. ونتج عن هذه السياسات المجنونة زيادة مفاجئة في الدعم الشعبي لعدد من الأحزاب اليمينية المتطرفة واليسارية المتطرفة في جميع أنحاء أوروبا، وبالطبع فإنها نتيجة منطقية.
يتغيب بشكل واضح الاعتراف بأن الليبرالية المؤسساتية هي السبب في مشكلة اللاجئين عن أي خطاب سياسي مُتعلق بهذه المشكلة. ولا يوجد أيضاً فصائل سياسية داخل الدول الغربية توجه الانتباه إلى السياسات العنصرية الليبرالية المؤسساتية التي دمرت دولاً مثل العراق وليبيا وسوريا، بالإضافة لتدميرها للدول الغربية اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً من الداخل.
يمكن القول إن السياسيين مجرد دمى لمؤسسات ليبرالية عابرة للحدود، أصلها في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. وتشمل هذه المؤسسات الليبرالية: اتحادات، شركات، مراكز فكر، منظمات غير حكومية وصناعة الأسلحة وما إلى ذلك. تعمل هذه المؤسسات ضمن المجالات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية والعسكرية بشكل مترابط لتحقيق الأهداف المرجوة.
يصر البعض على أن الأفعال المدمرة في الدول المختلفة سببها المحافظون الجدد، ولكنهم مخطئون تماماً. وفي الواقع هناك أقلية كبيرة من المحافظين الجدد الذين يعملون داخل الإدارة الحالية. قام رؤساء الولايات المتحدة بتنفيذ سياسات محلية وأجنبية ليبرالية في أصلها، ولم تتفق هذه السياسات كلها مع المحافظين الجدد بل بعضها فقط.
يمثل المحافظون الجدد طائفة معتدلة ومحددة فقط من عالم الليبرالية الواسع، وبعبارة أخرى المحافظون الجدد هم سلالة واحدة فقط من الفيروس الليبرالي، وهي سلالة تطورت عن الماركسية منذ فترة طويلة. بدأ هذا الفيروس يتحرك أكثر من أجل البقاء على قيد الحياة في الحرب الباردة داخل الدول الرأسمالية. يكفي القول في الوقت الراهن بأن الليبرالية ككل، هي المرض الأكبر الذي لا يمكن الاستهانة به، ويجب أن يتعرض للهجوم والهزيمة على جميع الجبهات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وبتدمير الليبرالية سيتم أيضاً محو المحافظين الجدد معها. ومن المؤكد أن الليبرالية هي المسؤولة عن انتشار الإرهاب في جميع أنحاء العالم.
يجب أن ننظر إلى مشكلة الإرهاب بشكل حاسم، فيجب أن نعالج مرض الإرهاب الخطير بنفس الطريقة التي يُعالج فيها الطبيب مريضه. يجب علينا لفعل ذلك أن نعترف ببعض الحقائق، خاصة عقب إسقاط الطائرة فوق سيناء، والهجمات الأخيرة في بيروت وباريس. يجب أن ندرك أن حقيقة الفوضى الحالية في الشرق الأوسط وظهور "داعش" هي نتيجة مباشرة للغزو الذي قادته أمريكا على العراق عام 2003، ومؤخراً نتيجة للدعم الفرنسي والأمريكي لمن يُعرفون بالمتمردين "المعتدلين" في سوريا. ويجب أن ندرك أن حقيقة الهجوم الذي قام به حلف الناتو على ليبيا عام 2011، أدى إلى أن يصبح هذا البلد مقراً لنشاط تنظيم "الدولة الإسلامية" .
كانت فرنسا في حالة حرب مع حكومة الأسد في سوريا لفترة من الزمن. فيجب أن نتذكر أنه بالإضافة إلى جميع أنواع الأسلحة والأموال التي قدمتها حكومة فرنسا للجماعات الإرهابية التي أصبحت فيما بعد تسمى داعش، فإن فرنسا أيضاً هي الدولة الغربية الوحيدة التي توقفت عن الاعتراف بحكومة الأسد والتي هي الحكومة الشرعية المعترف بها في الأمم المتحدة. واختارت الحكومة الفرنسية بدلاً من ذلك أن تعترف بمجلس معارضة سخيف، وقامت الحكومة الفرنسية الليبرالية بكل ما في وسعها من أجل نزع الشرعية عن الأسد. فيمكننا القول إن الحكومة الفرنسية مثال للسياسة الغربية الليبرالية.
ينبغي التأكيد على أن فرنسا لم تقاتل على مدى الشهريين الماضيين ضد الحكومة الشرعية في سوريا فحسب، بل كانت في الواقع في حرب ضد روسيا ومحور حلفائها الذي يمثل إيران والعراق وحزب الله المحاربين الحقيقين ضد الإرهاب السلفي الجهادي. تشبه فرنسا في معارضتها لروسيا المريض الذي يموت في المستشفى، ومع ذلك يقاتل طبيبه الذي سيقدم له العلاج. لا يشمل هذا العلاج استمرار اعتماد فرنسا على السعودية ودول الخليج وإعطائها الأسلحة مقابل النفط. نأمل أن يفهم القارئ أنه عندما يتعلق الأمر بالإسلاموية والوهابية والجهادية السلفية، فإن كل الطرق تؤدي إلى النظام السعودي، فإن السعودية في الواقع تمول المساجد الأكثر تطرفاً في جميع أنحاء العالم.
يؤدي هذا مباشرةً إلى نقطة أخرى: من أجل مكافحة الإرهاب وهزيمته بشكل فعال سواء في الداخل أو الخارج، فمن الضروري للحكومات الغربية أن تزيل الليبرالية الخاصة بها. فعلى سبيل المثال: أولئك الذين ارتكبوا هجمات 13 نوفمبر من باريس وبروكسل، واستفادوا من مجتمعاتهم الليبرالية المحلية، لا يمكن اعتبارهم ممثلين للإسلام بل ممثلين للحضارة التي نشأوا فيها.
لم تنجح أزمة اللاجئين المستمرة في أوروبا إلا في إشعال نيران التجنيد في الأنشطة الإرهابية في جميع أنحاء العالم. وتتركز المشاكل الوجودية الأكثر إلحاحاً بالنسبة لأوروبا في قضيتي الإرهاب والهجرة الجماعية. ولاتزال فرنسا هدفاً ضعيفاً ضد أي نوع من أنواع الإرهاب في المستقبل، بسبب سياسة فرنسا المفتوحة على الحدود منذ فترة طويلة، ومجتمعها العالمي المفتوح بشكل أساسي والعدد الكبير من مواطنيها الذين هم من أتباع السلفية.
ينبغي أن نعرف في النهاية أن استطلاع الرأي الذي أجرته وكالة تصويت محترمة عام 2014، وجد أن ما يصل إلى 15% من سكان فرنسا يدعمون داعش وهم في أعمار بين 18 و24 سنة، وتزداد هذه النسبة لتصل إلى 25%، وإن هذه النتائج طبعاً أكثر من مقلقة. يمكننا أن نصدق هذه الأرقام عندما نرى أن وسائل الإعلام الفرنسية على مدى سنوات أساءت لسمعة الرئيس الأسد، بينما مدحت معارضي الأسد الذين يضمون الإسلاميين وما يسمى بالمعتدلين، وبالتالي فمن المفهوم تماماً لماذا ينجذب الكثير من الشباب إلى رسالة الجهاديين.
وختاماً، يمكن القول إن الهجمات الأخيرة في باريس وأزمة اللاجئين المستمرة ليست إلا نتيجة للسياسات الخارجية والمحلية الليبرالية التي عززتها حكومة فرنسا وغيرها من حكومات الغرب لأجيال. يتطلب حل مشكلة اللاجئين وضع حد للإرهاب في الداخل والخارج. ويعني وضع حد للإرهاب أن على شعب فرنسا والغرب أن يبدأ فوراً بتقييم الليبرالية المؤسسية التي تسيطر على حياتهم وحياة الآخرين في جميع أنحاء العالم. يجب أن يبدأوا على الأقل في التحقيق في جميع التداعيات السلبية الناتجة عن الليبرالية المؤسسية على المستويات المحلية والوطنية والدولية. يتوجب على فرنسا والدول الغربية الأخرى التي أنشأت داعش وكانت مسؤولة عن بدء ومن ثم تحريك الحرب الأهلية في سوريا أن تعكس مسارها وتتحول أخلاقياً وسياسياً وربما ثقافيا واجتماعياً واقتصادياً أيضاً. ويتوجب عليهم إما دعم أو الانضمام إلى التحالف الدولي الروسي ضد الإرهاب، وسيؤدي أي شيء أقل من هذا التغيير إلى الموت الذي لا رجعة فيه للغرب في المستقبل القريب.