اتحاد سوفياتي براغماتي بألوان الصين وروسيا
الحلف الروسي الصيني ليس مجرد محاولة لتحسين العلاقات الاقتصادية بين طرفيه ولعله تأخّر في بناء المعادلة الضرورية للدخول القوي الى اسواق العالم.
فلم يورد التاريخ قصة دولة هيمنت اقتصادياً من دون توازنين: القوة العسكرية والعلاقات السياسية على ان يكون ثالثهما التقدّم الاقتصادي.
هذا ما فعلته بلدان الغرب الأوروبي والأميركي في القرنين الماضيين بتحقيق سيطرة عسكرية وهيمنة على الاقتصاد العالمي وبناءاته السياسية. وحاولت ألمانيا واليابان إنجازه عسكرياً في الحرب العالمية الثانية وفشلتا، لكنهما عاودتا التقدم اقتصادياً من خلال العباءة الأميركية.
المشكلة اليوم أن هذه العباءة لم تعد تتسع لأحد وبدأت حتى بطرد من كانت تحتويه.
هناك 4 قوى تريد مكاناً راسخاً في اسواق العالم، ولكن الأميركيين لا يفسحون مجالاً بلغة التراضي، لأن اوضاع إمبراطوريتهم ليست على ما كانت عليه، وبدأت بالتراجع السياسي والعسكري. ويبدو أن الصين والهند تسببان قلقاً اقتصادياً كبيراً باعتبار ان اليابان والمانيا لا تزالان تخضعان للسياسة الأميركية، فهناك معاهدات نتجت عن هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية قضت بمرابطة قوات أميركية دائمة. وبما ان الهند خطر آجل كان لا بدّ للأميركيين من بناء معادلة ثلاثية، ضبط أوروبا ومحاولة عرقلة تطور الاقتصاد الصيني والحدّ من العودة الروسية الى الفضاءات السابقة وميادين جديدة.
هذا ما جعل الأميركيين ينظمون عقوبات ومحاصرات وإيقاع ضرائب قاسية، وبناء آليات عسكرية محلية في دول الشرق الاوسط لصد التقدم الروسي من خلال سورية، بالإضافة الى نشر وحدات أميركية في مناطق استراتيجية فيما ارتدت المناوشات مع الصين أسلوب عرقلة انتشار سلعها بفرض ضرائب كبيرة عليها وإرغام التابعين لها بعدم التعامل الاقتصادي مع التنين الأصفر.
بالمقابل لم تعادل العلاقة التاريخية بين الصين وروسيا حجم ما تتعرّض له من سياسات التأديب الأميركية فبقيت ملتبسة تحتوي على شيء نسبي من صداقة ترقى الى سبعين عاماً.
لكنها مالت الى التحفظ. فالصين بنت منذ عقدين سياسات اقتصادية تنأى عن اي طموح سياسي ولمصلحة تقديم سلعة شعبية ليست بحاجة الى إسناد سياسي مسبق.
فتمكنت من اختراق معظم اسواق العالم برشاقة سعرها وجودة تصنيفها، حتى أنها استحوذت على الاستهلاك الشعبي في أميركا الشمالية والجنوبية وأوروبا وآسيا.
وابتدأت بأسواق أفريقيا وذلك على حساب تراجع الإمساك الأميركي والأوروبي بهذه الأسواق.
فكان أن بدأ استهداف أميركي كبير للصين اقتصادياً ولروسيا سياسياً وعسكرياً، وذلك بنصب معوقات سياسية لها في البلدان المجاورة لها في أوروبا الشرقية والقوقاز والحدود السورية العراقية لمنعها من العودة الى العالم.
لكن الصين لم تقتنع بضرورة التصدي لسياسات القمع الأميركية ضدها الا بعد الرفع الأميركي الاخير للضرائب على سلعها الى حدود 35 في المئة ما يعني استحالة اختراقها للاسواق الأميركية وذلك لسقوط عنصر رخص اسعار سلعها، قياساً بمثيلاتها الأوروبية والأميركية والهندية، واليابانية والعالمية.
إنها إذاً الحرب على الصين وروسيا بسلاح العقوبات والضرائب التي لا تقل خطورة عن الحرب بالصواريخ والقصف.
ما يلاحظ هنا ان هذه العدوانية الأميركية العالمية عجلت بالالتحام الصيني الروسي الذي يبدو أنه انتقل بحلف من شؤونهما في بلديهما الى مستوى توحيد جهودهما للخروج الى العالم محدداً الشرق الاوسط واسيا واوكرانيا وأميركا الجنوبية وإيران وفنزويلا وتركيا وكوريا الشمالية بشكل خاص كميادين اساسية للعمل على ان تكون المواقع المحورية للانطلاق نحو العالم.
الامر الذي يجعل هذا المدى وكأنه تعديل لطريق الحرير الصينية بما يشمل روسيا ايضاً، كيف يمكن تفسير هذه الحركة؟
يريد الطرفان تأمين ثلاثة مستلزمات لترسيخ دوريهما العالمي، الاستراتيجيا، الطاقة والسيطرة على الأسواق.
لجهة الاستراتيجيا فإن الوجود السياسي العسكري لروسيا والصين في أزمات العالم ضروري لتحولهما مرجعين متمكنين من السلم والحرب في آن معاً.
ففنزويلا وكوبا دليل على أنهما في قلب أميركا الجنوبية المطلة على الجزء الشمالي في الولايات المتحدة وكذلك في الشرق الأوسط عبر سورية وإيران وهو وسط العالم، ويكفي أن هذه المعادلة تمسك بأهم ثلاثة خطوط لنقل الغاز في العالم: الأول من جهة الباسفيك إلى ألمانيا وأوروبا والثاني عبر البحر الأسود إلى تركيا والثالث من روسيا إلى الصين وهذا يقلص من تدفق الغاز الصخري الأميركي المرتفع السعر والكلفة إلى أوروبا.
لذلك، فإن لهذا الحلف مساحات استراتيجية واسعة تجمع بين الموقع الهام والدخول على خط الأزمات في وجه الهيمنة الأميركية. وهذا يفتح الطريق للأساطيل الروسية من جهة والسلعة الصينية من جهة ثانية، فتخترق السلعة الصينية الأسواق وتستقر فيها لأمد طويل إلى جانب التوسع المرتقب لبيع السلاح الروسي والغاز وبعض المعدات الصناعية مع إمكانية حدوث تعاون روسي صيني على مستوى إنتاج الكثير من السلع لأنه لا يمكن التصديق بأن غاية الحلف الروسي – الصيني هو تبادل سنوي اقتصادي يصل إلى 120 مليار دولار يكاد يعادل التبادل الروسي مع تركيا الذي يصل إلى مئة مليار أيضاً.
يتبين بالاستنتاج أن المعادلة الصينية الروسية تتقدم لانتزاع نصف مساحة الأحادية الأميركية المهيمنة منذ ثمانينيات القرن الماضي وقد تسمح للهند بحيازة مساحة من هذه الأحادية.
كما تتيح لإيران الفرصة الذهبية لبناء بلد اقليمي وازن له مواصفات الدور العالمي.
لذلك فإن الإمبراطورية الأميركية إلى مزيد من الانحسار على وقع إعادة رسم طريق حرير جديدة روسية صينية تمرّ بإيران وتعرج على الهند، لكن أوروبا الغربية المتمسكة بنتائج خسارتها في الحرب الثانية لمصلحة الأميركيين ليست مؤهلة للخروج من القارة الأميركية حتى إشعار جديد من شارل ديغول.