تناقض أميركي ـ أوروبي .. هل نستفيد منه؟
تتراوح العلاقات الأوروبية مع الولايات المتحدة بمراحل مدّ وجزر ربما يعود تاريخها إلى لحظة ولادة الولايات بدعم من فرنسا ضدّ انكلترا بحرب التحرير، حيث أرسلت فرنسا «لافييت» للمساهمة في الصراع ضدّ المستعمر الانكليزي آنذاك. غير أنّ الإشكاليات انقلبت بعد الحرب العالمية الثانية إلى محطة تعاون وتنسيق استراتيجي واقتصادي تختزل بمشروع «مارشال» لإعادة بناء أوروبا، كلّ أوروبا الغربية.
هذا التناغم نقضته بعض المواقف في محطات تاريخية أساسية منها العام 1956 أثناء العدوان الثلاثي الانكليزي، الفرنسي، الصهيوني على مصر بعد تأميم هذه الأخيرة لقناة السويس، حيث وقفت الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفياتي لإجهاض أهداف الهجوم آنذاك. وكانت هذه المرحلة التاريخية هي فعلياً لحظة وراثة الاستعمار الجديد من الاستعمار الأوروبي القديم، وفي مرحلة ثانية، وأثناء الغزو الأميركي للعراق 2003، وقفت بعض الدول الأوروبية التي لها مصالح مباشرة ضدّ هذا الهجوم سياسياً مما دفع بوش للقول بأنّ أوروبا هي «قارة عجوز».
قد يكون الحلف الأطلسي هو أهمّ منظمة للتعاون بين أوروبا بشكل عام والولايات المتحدة على الصعيد العسكري. ولقد استخدمت أميركا هذا الحلف في مواجهتها للاتحاد السوفياتي سابقاً في مرحلة الحرب الباردة، بل ربما كان هذا الحلف رأس الحربة في المواجهة المباشرة بالإضافة إلى القوات الأميركية المتواجدة على الأراضي الأوروبية والتي وصفها البعض من المعارضين الأوروبيين بقوات الاحتلال خاصة في المانيا التي كانت منقسمة إلى المانيتين شرقية وغربية. بالطبع لقد تمدّد الحلف الأطلسي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي نحو دول أوروبا الشرقية. وتعاون بشكل كلي مع الأهداف الأميركية، وعلى وجه التحديد حرب تقسيم البلقان، يوغسلافيا السابقة، تشيكوسلوفاكيا السابقة وغيرها.
استفادت الولايات المتحدة من تمدّد الحلف ونصبت جدار الدرع الصاروخية من بولندا شمالاً حتى تركيا جنوباً مروراً ببلغاريا في مواجهة الصين وروسيا القائمة من كبوتها التاريخية. وحاولت من خلال هذا الحلف أن تمدّد نفوذها داخل الجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا من جورجيا إلى أوكرانيا إلى أذربيجان ومنطقة القوقاز، حيث اصطدمت بالدفاع الروسي، بحيث تحوّل هذا التناقض إلى نوع من الحرب الباردة الجديدة. ومن المؤكد أنّ هذه الحرب الجديدة التي تستخدم في وقتنا الراهن مفهوم الحرب الناعمة قد طاولت أمتنا السورية بكافة كياناتها وقسم من العالم العربي، حيث الصراع على أشدّه على النفوذ والثروة النفطية والغازية والمواقع المفتاحية الاستراتيجية. وهو ما يحصل الآن في سورية والعراق ولبنان والأردن، بالإضافة إلى المسألة الأساسية القديمة في فلسطين.
في بداية هذه الأحداث وظفت الولايات المتحدة الحلف الأطلسي في عملية إسقاط الرئيس الليبي معمر القذافي، وكانت لأوروبا مصالح مباشرة في هذا البلد خاصة إيطاليا وألمانيا وفرنسا وغيرها. غير أنّ ما يمكن لحظه في هذا السياق، أنّ القوى الأطلسية الكبيرة، من حيث العدّة والعدد التي اشتركت في عملية ليبيا أثبتت النظرية القائلة «الحلف الأطلسي عملاق اقتصادي وقزم عسكري»، حيث لم يستطع حسم المعركة بمواجهة ثلاث كتائب فقط من قوى القذافي إلا في فترة تزيد عن السنة.
بعد انتخاب ترامب إلى سدّة الإدارة الأميركية يبدو أنّ أوروبا العازمة على استعادة دورها الاستعماري القديم، وجدت نفسها بعيدة عن طروحات ترامب الساعي إلى تقاسم النفوذ مع روسيا في المشرق العربي، بعيداً عن المصالح الأوروبية التي تعتبر نفسها متضرّرة من اتفاق القطبين الرئيسيين في هذه الساحة على محاربة الإرهاب الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من ضرب المصالح الأميركية والأوروبية نفسها. ومع ذلك تعتبر انكلترا التي فتحت علاقات مع ما يُسمّى بـ «الإسلام الراديكالي» منذ مرحلة 1942 وفي ما بعد وظفته في محاربة الحركات القومية والوطنية في مصر وسورية والعراق، أنها ستضرب بأدواتها التي طالما استخدمتها حتى لصالح الولايات المتحدة نفسها في أفغانستان والعراق ومصر وغيرها. وعلى المنوال نفسه تسير فرنسا وألمانيا المساهمتان في إقامة قواعد عسكرية في شمال سورية.
وربما السبب الأكثر حساسية لأوروبا من طروحات ترامب هو خوفها من انتعاش الحركات اليمينية المتشدّدة في بلدانها والتي ستؤثر بشكل مباشر على أنظمة الحكم الأوروبية الحالية.
صحيح أنّ ترامب لن يقف إلى جانب حقوقنا، إنما مع مصالح الولايات المتحدة الأميركية، ومع حساباته الداخلية والخارجية، وعلى وجه التخصيص سيبقى مسانداً للعدو «الإسرائيلي». غير أنّ ما نتأمّله بقاء هذا التناقض بين حليفي الأمس قد يفسح بالمجال لإيجاد فرصة سانحة لبلادنا بخروجها من الحرب واستعادة نوع من الأمن والتحضير والتخطيط لتحقيق نوع من الجهوزية للمراحل المقبلة.
وليد زيتوني - "البناء"