سورية تعود كما كانت بموازين القوى الرّاجحة

11.10.2017

مشهد منتحلي صفة الإعلاميين والمحللين السياسيين في الفضائيات لا يترك أثراً في المشاهدين، لأنّهم أبواق تكرّر معزوفة رتيبة منذ سبع سنوات عن «تفتيت» تتّجه إليه سورية تحت ضغط الانقسامات السياسيّة والعرقيّة والطائفيّة.

وتكاد الدولة السوريّة تستعيد معظم سيادتها على أراضيها، لكنّ الأبواق لا تصمت، حتى أنّها تبدو وكأنّ مشغّلها الدولي نسي أن يُطفئها بسبب تراكم الخسائر التي أعمت عينيه. لذلك فالسؤال هنا هو لماذا سورية عائدة كما كانت؟ وما هي الأسباب التي تدفع في هذا الاتجاه رّغم استمرار المعارك في الشمال والشرق والجنوب؟

طبّقت الدولة السوريّة خطّة من ثلاث نقاط: إدارة الداخل بشكل يستطيع السوري فيه أن يصمد مستقبِلاً مواطنيه النازحين من المناطق التي اجتاحها التحالف الدولي والإقليمي العربي مع منظّمات التكفير، وشملت هذه الإدارة المتمكّنة توفير الحاجات المادية والإداريّة والأمنيّة، إلى جانب إيديولوجيا قومية تساوي بين السوريين كلّهم، وتعتبر أنّ الدولة الوطنيّة السوريّة هي المؤدّية إلى هذا الهدف. هذا مقابل برامج عمل المعارضات السوريّة التي تميّز الناس بين مؤمن ينتمي إليها وكافر ليس منها، وبهذه الطريقة برّرت «الذبح» المنقول مباشرة بواسطة فضائيات الغرب والخليج، والسبي والاغتصاب واستعمال الأطفال قنابل متفجّرة، وادّعاء تمثيل الله على الأرض وتدمير المراكز الدينيّة والآثار والحضارات، وتهجير الناس لإذلالها وتنظيمها في الإرهاب والتكفير.

النقطة الثانية من الخطة، هي التركيز على الجيش السوري كوسيلة أساسيّة للدفاع والهجوم، مطبّقاً فكراً وطنياً تقوم ركيزته على أنّ سورية بكاملها ملك لكلّ سوريّيها. فأهميّة الساحل تتساوى مع دمشق والحسكة والرقة والقامشلي والبادية وحلب… وكلّ مكان آخر. هذا إلى جانب المحافظة على مستوى الجيش تدريباً وتسليحاً وتذخيراً، وعلى المستويات الأخرى كلّها من الانضباط والغذاء واحترام الناس، حتى أنّه لم يسجّل مجرّد اعتداء بسيط على مدنيّ، لأنّ جيش سورية المستبسل هو للدفاع عن الأهل والأرض أولاً، اللذين يشكّلان مفهوم السيادة. وباعتراف كلّ أنواع المراقبين تمكّن النظام من الحرص على الجيش، نجح هذا الأخير في صون وحدته ومنع تفكّكه، فكان يتقدّم ويتراجع تبعاً لضرورات مشروع تحرير سورية، وليس لإطلاق بالونات إعلامية.

لجهة النقطة الثالثة من خطة الدولة، كان التفتيش عن إطار عربي إقليمي دولي تستطيع التحالف معه لدرء أخطار مشروع أميركي «إسرائيلي» سعودي يريد تدمير سورية لتفكيك كامل العالم العربي. بمعنى أنّ الدولة السوريّة أدركت منذ البداية أهداف المشروع الذي أباح الحدود السوريّة لجهادية إرهابية دولية، تتسلّح وتنتقل وتتموّل وتقتل تحت أنظار الأميركيين، وبإشراف تركي وتمويل سعودي. ولا يمكن نفي وجود إدارة أميركية عبر الأتراك والسعوديين للاستثمار في هذا الإرهاب، بدليل أنّ عديد أفرادها زاد عن المئة ألف أجنبي مرّوا من الحدود التركيّة بشكل كبير إلى جانب حدود الأردن والعراق ولبنان، من دون نسيان الإرهابيين العرب الذين توافدوا من المشرق والمغرب، حتى أنّ السعودية وتونس تتربّعان على رأس لائحة الدول العربية المصدّرة للإرهاب إلى سورية.

لاحظت الدولة السوريّة أنّ هناك تعاطفاً عربياً شعبياً معها في تونس ولبنان ومصر والجزائر والعراق وبلدان أخرى كثيرة، لكنّ هذا التعاطف لم ينعكس على مستوى الأنظمة والدول لسببين:

تهديد سعودي إماراتي قطري بقطع العلاقات مع أيّ دولة تُظهر ميلاً إلى الدولة السوريّة، ما أدّى إلى ضبط حركتها، وفعلت الولايات المتحدة الأميركية الأمر نفسه، فشكّلت تحالفاً دولياً معادياً لسورية، ما دفع بالنظام السوري إلى تظهير تحالفه مع حزب الله وتنظيمات عراقية متجانسة، اتّسعت لتشمل تنظيمات مشابهة في آسيا الوسطى.

كما تظهّرت براعة النظام في الاستفادة من عداء السياسة الأميركية لإيران من جهة، وروسيا من جهة أخرى، فنسجت تحالفاً عسكرياً عميقاً معهما أدرك حدود التدخّل الجوّي الروسي في سورية بشكل مثمر وقويّ، ومشاركة إيرانيّة هامّة على مستويي التدريب والاستشارة والقتال المباشر.

شكّل هذا التحالف المظلّة التي أدّت أدواراً عدّة: عسكري أسهم إلى جانب الجيش السوري في استعادة ثلثي مساحة سورية، وسياسي في وجه السياسة الأميركية التركية السعودية، بأنّ سورية مدعومة من قوى وازنة، ودولي بتشجيعه الكثير من الدول الانتقال من حالة المذعور من الضغط الأميركي إلى مرحلة المعبّر عن رأيه محتمياً بانتصارات الجيش الأخيرة في سورية، وهي انتصارات لم يعُد بوسع أحد نكرانها بمن فيهم الأعداء.

ألَم يدلِ وزير الأمن في دولة العدو، ليبرمان، بتصريح اعترف فيه وهو يكاد يبكي بأنّ «الأسد قد انتصر»! وشاركه الشعور نفسه الرئيس الفرنسي ماكرون، الذي طالب بتسوية سياسية في سورية على قاعدة وجود الأسد!

وبذلك يتبيّن أنّ الدولة السوريّة السياسيّة والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية مستمرّة بشكل يزداد يومياً قوة، مقابل جبهة معارضات سوريّة وخليجية تواصل تأدية دور أبواق آليّة، وتراهن على الكرد والأتراك والقواعد الأميركية في جنوب سورية وشرقها، وتتمنّى لو تحطّم «إسرائيل» سورية وتدمّرها.

وهذا يجعل من البحث عن الأسباب التي تجعل سورية بوضعيّة القريب من استعادة السيادة كاملة، ليس أمراً مضنياً… فهناك أولاً هزيمة كبيرة ومدوّية للإرهاب على كامل الأراضي السوريّة، ولم يعد لديه إلا إدلب وبعض البؤر قبل دير الزور والقائم والحدود العراقية.

ولا ننسى انكفاء الدور التركي الذي أصبح يلعب بتواضع من خلال الدور الروسي وتفاهمات مع إيران من دون كبير ممانعة من الدولة السوريّة، وتقليص الرعاية السعودية المنهمكة بخلافاتها في الخليج وانحسار دورها الإسلامي والعالمي، وكذلك قطر المتخوّفة من سقوط دولتها تحت نيران الغضب السعودي.

أما لجهة «إسرائيل»، فهي مرتبطة بتنظيم قواعد اشتباك مع الروس، تحظر عليها اختراق الأجواء من دون أسباب قويّة. و«إسرائيل» أصلاً تحارب من أجل أهدافها، وتستثمر في قوى عربيّة من أجل أهدافها هي، لذلك هي تعرف أنّ أيّ هجوم على سورية قد يؤدّي إلى تدمير علاقات عميقة تنسجها مع الخليج والمغرب والسودان، أيّ قد تؤجّلها إلى ظروف أخرى… وهذا ليس في مصلحتها.

كما أنّ المراهنة على الكرد ليست موفّقة، لأنّ نجاح المشروع الكردي هو فوز بقسم من سورية للأكراد وليس للمعارضة.

يمكن في إطار هذه المعطيات تأكيد أنّ تركيا أصبحت مهتمّة بمسألتين: الخوف من اندلاع ثورات كرديّة داخل تركيا، ومحاولة منع إرهابيّي إدلب من دخول تركيا، وعددهم نحو ثلاثين ألفاً…

ولا يبدو، من جهةٍ أخرى، أنّ الأميركيين بوارد القيام بغزو جديد وهم المتورّطون في أفغانستان منذ 14 عاماً، ولا تزال طالبان تسيطر على ثلثي بلادها. كما أنّهم فرّوا من العراق تاركين وراءهم جيوشاً من الإرهابيين.

لذلك، لا يبقى أمام المشروع الأميركي إلا إقرار تفاهمات عميقة مع الروس، وإعادة تزخيم الفتنة السنّية الشيعية بأساليب جديدة وورقة الأكراد والعدوانيّة «الإسرائيلية». وهذه أوراق لا تمنع استعادة الدولة السوريّة سيادتها على أراضيها، لأنّ الأتراك عاجزون عن التحوّل قوة احتلال في الشمال بسبب الدور الروسي والإيراني والكردي والسوري، كما أنّ الكرد من دون الغطاء الأميركي مشاريع غير قابلة للحياة إلا للمدة التي تسمح بها أميركا… والجهادية الإرهابية على وشك الاحتضار.

والنتيجة أنّ سورية تعود كما كانت بالتحام شعبها وجيشها ودولتها، والتحالفات التي أفرزت موازنات قوى هي التي تحدّد موقع سورية على رأس حركة التاريخ… فيما الإرهاب وداعموه الدوليون والإقليميون والعرب في أسفل السافلين.