محاربة الصروح والنصب التذكارية .. و انتحار أمريكا
يستعد عمدة نيويورك (بيل دي بلاسيو) لهدم النصب التذكاري لكريستوفر كولومبوس الذي اكتشف أمريكا في عام 1492.
إن ما تشرع الولايات المتحدة للقيام به من تدمير لتماثيل الرؤساء - وهو أمر غير صحيح سياسيا - ، وتدمير آثار الكونفدرالية و تماثيل البحارة العظماء من العصور الماضية، لا يمكن اعتباره إلا انتحاراً.
لم يرضى الليبراليون اليساريون و أنصار العولمة الأمريكيون الذين يمثلون الأقليات - القومية والجنسية – عن فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية وقرروا عدم إضاعة الوقت ومحاولة إبعاد الساكن الحالي للبيت الأبيض إما عن طريق الاتهام أو عن طريق ثورة ثقافية. وقد يكون من الصحيح أن نقول أنها ثورة غير ثقافية وثورة مناهضة للتاريخ لتوحيد المناهضين لترامب ولمساره السياسي.
إن الناس الذين نظموا الثورة الثقافية في الولايات المتحدة ليسوا محرجين من أنفسهم. على الرغم من أنهم لا يعرفون أن أي ثورة تندلع فهي ثورة تهدف إلى التطرف إلا إذا كانت ثورة لا ينتج عنها أي اعتراض أو أفعال مضادة لها. فلا يمكن للثوار أبدا أن يتوقفوا في الوقت المناسب. وعلاوة على ذلك، كما أشار بسمارك، فقد تم التخطيط للثورات من قبل الرومانسيين، ولكن تنفيذها تم من قبل المتعصبين، و الأشرار اليوم هم من يحصدون نتائجها.
أعمال الشغب ضد التاريخ:
لقد بدأ رؤساء البلديات والمجتمعات المحلية الخاضعة لحكم الديمقراطيين حرباً ضد النصب التذكارية التي شيدها الأمريكيون "البيض" في الحرب الأهلية بين عامي 1861-1865. إنهم يتعمدون إشعال الكراهية العنصرية لأغراض سياسية ويتهمون ترامب بإثارة ذلك في "سياسته الانقسامية". وقد تم الإعلان بأن الجنرالات والسياسيين وجنود الولايات الكونفدرالية الأمريكية - المعترف بهم كأبطال أمريكيين – هم مالكو العبيد، ومدافعون عن مبدأ العبودية والتمييز العنصري (الذي استمر لقرن كامل بعد انتصار اليانكيز في الحرب الأهلية)، وقيل عنهم بأنهم أعداء "القيم الحديثة". وقد أعلنت وسائل الإعلام الليبرالية واليسارية على نحو جاد بأن الكونفدراليين يتماشون مع أفكار "النازيين" في ألمانيا،. ولكن ألمانيا لا تحتفظ بآثار هتلر ولا بآثارٍ لشخصيات أخرى في نظامه. فلماذا لا نزال نحن محتفظين بالنصب التذكارية لرئيس الاتحاد و جيفرسون وجاكسون والجنرال لي وغيرهم؟ وبطبيعة الحال، فإن هذا التزوير التاريخي لا يزعج أحدا.
هذه هي البداية فقط.
وكما نعلم فإن الثوار لا يتوقفون أبداً ولا يمكن حصرهم في مكان واحد. ولذلك، فإن هدم النصب التذكارية لأبطال الجنوب لم يكن كافيا لهم – فقد تمت إدانة مؤسسي الولايات المتحدة أيضا بالعنصرية من أمثال : الرئيس جورج واشنطن وتوماس جيفرسون. إن صحة هذه الاتهامات واضحة وبينة. فقد كانت الشخصيات الأمريكية في القرن الثامن عشر عنصرية أيضاً، لأنهم لم يعتبروا بأن العبيد الأفارقة في نفس سويتهم. ولكن محاكمتهم على ذلك من وجهة نظر شخص من القرن الواحد والعشرين أمر لا معنى له فمن المستحيل الحكم على الناس في عصر مختلف تماما وفقا لقوانين لم يعرفوها قط. ولكن علينا أن نعترف بأنهم كانوا عنصريين. والنصب التذكارية لأول الرؤساء الأمريكيين والكونفدراليين كانت بمثابة تذكير بما تم إحرازه من خطوة عملاقة في مجال حقوق الإنسان منذ تلك الأوقات.
هذه هي الطريقة التي يفهم بها نائب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية مايكل بينس هذا الوضع والذي قال: "أرى أنه من المهم أن نتذكر الماضي وأن نعزز المواقف على أساس التقدم الذي تم إحرازه كما أني أدين محاولات القضاء على جزء من تاريخنا المشترك لمجرد إنجاز المهام السياسية الحديثة و أؤكد على ضرورة أن يتذكر الأميركيون تاريخهم وألا ينسوا إنجازات أسلافهم".
الرئيس ترامب يفهم هذا تماماً ويقول: "الآن يتم هدم النصب التذكاري للجنرال لي و" جدار الحجر " لجاكسون، والأسبوع القادم سيتم هدم تمثال جورج واشنطن، وبعد أسبوع، تمثال توماس جيفرسون، يجب عليك أن تسأل نفسك - أين ستكون النهاية ؟ "
عبثية بلا حدود:
و بالمناسبة، عندما قال ترامب بأن النصب التذكارية لواشنطن وجيفرسون مهددة بالهدم، لم تكن هناك كلام حول هدمها. لكنه توقع أن هذا سيحدث. ومع ذلك، يجب علينا أن نعترف بأنه لم يتنبأ تماما بالمستقبل، فهو لم يتوقع التطرف من المشاركين في الثورة الثقافية والمتلاعبين بها. و بعد بضعة أيام، نشأت دعوات جديدة لهدم النصب التذكاري لكريستوفر كولومبوس، الذي اكتشف العالم الجديد. وبطبيعة الحال، فقد سافر الأوروبيون إلى أمريكا الشمالية قبل أن يكتشفها كولومبوس حيث زارها الفايكنج، و تم العثور على مستوطناتهم فيها من قبل علماء الآثار. وربما سافر إليها الفينيقيون واليونانيون أيضا. ومع ذلك، يعتبر كولومبوس مكتشف أمريكا، على الرغم من أنها حصلت على اسمها من تاجر مسافر إيطالي يدعى أميرغو فيسبوتشي. وقد تم استخدام اسم كولومبوس لتسمية مقاطعة كولومبيا، والتي سيكون من الأفضل أيضا أن يعاد تسميتها تكريما لبعض الزعماء و المدافعين عن حقوق السود مثل مارتن لوثر كينغ، أو تكريما لبعض نجوم البوب، وذلك بما يتماشى مع "القيم الحديثة". كما يجب تطبيق الأسلوب ذاته في التعامل مع أسماء المدن والمناطق الأخرى مثل عاصمة ولاية أوهايو، والجامعات المشهورة والمؤسسات التعليمية المختلفة في جميع أنحاء البلاد...
نيويورك تظهر كمثال:
ومع ذلك، فإن مثل هذه الاحتمالات لا تخلط بين أولئك الذين قرروا بحزم أن يحولوا الأمريكيين إلى "يوحنا الذين لا يتذكر القرابة". حيث قرر رئيس بلدية نيويورك (العاصمة المالية للولايات المتحدة) بيل دي بلاسيو أن يهدم نصب كولومبوس على الفور. وكما أكدت وسائل الإعلام، فإن الممثل الرسمي لقاعة مدينة نيويورك، بن سارلي كان قد قال: "إن تمثال كولومبوس هو من بين المعالم التي تتطلب اهتماما فوريا من جانبنا، نظرا للقلق الهائل الذي يسببه". وحتى قبل ذلك الإعلان، أصبح من المعروف أن دي بلاسيو أمر بفحص جميع الآثار في نيويورك لمدة 90 يوما من أجل استخدامها في "التحريض على الكراهية".
ما لا يفهمه المتظاهرون:
إن أولئك الذين يكرهون تاريخهم هم فقط من يعتقدون بأنه خدعهم، ويريدون الانتقام منه. وهناك عدد قليل جدا من الجماعات التي تدعي أنها ضحية للتاريخ في الولايات المتحدة، على الرغم من أنهم ليسوا كذلك. ولكن من الملائم جدا إلقاء اللوم على الآخرين وكره الجميع وتوقع "التعويض". ومن الواضح أن تحقيق مثل هذه الوحدة ليس صعباً جداً لأن هؤلاء الناس لا يفهمون أنه إذا تم تدمير التاريخ، فإن ذاكرة "المظالم" في الماضي سوف تختفي أيضاً، وسيصبح من المستحيل المطالبة "بالتعويض" في المستقبل. وسيتمسك سادة العالم في المستقبل بسيادتهم وسيتحكمون بالاقتصاد بكل الوسائل الممكنة.
ومن الصعب معرفة ما إذا كان قادة "الثوار" الأمريكيون يفهمون ذلك. على الرغم من أن هذا الأمر مفهوم بشكل جيد من قبل أولئك الذين قاموا بتنظيم الاحتجاجات. إن قائمة "أعداء الشعب" تتزايد باستمرار، ولا تقتصر فقط على الشخصيات الشهيرة عالميا بل تضم أيضا أناساً غير معروفين جيدا ولكن يمكن أيضا تطبيقها على "العنصرية" يوماً ما.
و في مظاهرة نظمها رئيس مجلس المدينة ميليسا مارك فيفيريو وغيره من الديمقراطيين البارزين في نيويورك، قدم فيفيريو اقتراحاً بهدم النصب التذكاري للدكتور جيمس ماريون سيمز (1813-1883)، الذي يعتبر "أب الأطباء في اختصاص أمراض النساء الحديثة ". وهو متهم بإجراء تجارب طبية على العبيد- و كان يعمل على النساء الزنجيات دون تخدير، ويختبر عليهم أساليب جديدة للعلاج. وقد استخدمت الأساليب والأدوات التي وضعتها سيمز في الطب إلى يومنا هذا. لسوء الحظ، هذا هو الواقع في الولايات المتحدة. وهو واقع خطير جدا.
معظم الأمريكيين معارضون، لكننا لا نستمع لهم:
إن جميع الثورات، بما في ذلك الثورات الثقافية قام بها الأقليات، ولكنها لم تكن أقليات بسيطة: فهي منظمة، مدفوعة الأجر، مع مساعدة من أشخاص يوازون الطبقة الحاكمة. ليتم هدم الآثار في جميع أنحاء أمريكا. ويجرى حاليا تحضير لأعمال شغب ثقافية فى جميع أنحاء البلاد، كما أن التلفاز ووسائل الإعلام مليئة بتصريحات عن تدمير وهدم وإزالة المعالم الجديدة. وفي الوقت نفسه، ووفقا لاستطلاع الرأي الذي أجراه معهد ماريست للرأي العام مع بعض وسائل الإعلام،فإن 62% من الأميركيين يعترضون على هدم آثار الكونفدرالية.
ومن المعروف وفقاً لعلم النفس بأن الناس لا يعيشون في عالم الصور فقط بل في آثار الصورة أيضاً. فعندما يفقد الشخص الذاكرة، هذا يعني أنه لا ينسى تجربته في الحياة فحسب، بل أيضا تجربة البشرية جمعاء و على مدى قرون عديدة، لأن القيمة الرئيسية للذاكرة هي تحديث تجربة الماضي لحل المشاكل الناشئة. و إذا فقد الشخص الذاكرة هذا يعني أنه يفقد شخصيته - يقع في بيولوجية الوجود الخضري البحت - .
يعتقد المؤمنون أن الشخص يفقد ذاكرته المتعلقة بالخطايا و هم على حق. ويحدث الشيء نفسه عندما يتعلق الأمر بالأمم. فإذا نسيت الأمة تاريخها، رموزها، أبطالها، فلن تعرف أحداث الماضي التي أدت إلى الحاضر، وبالتالي سيكون محكوماً على هذه الأمة أن تكرر تاريخها مرة أخرى وتقترف جميع الأخطاء القديمة . إن جماعات داعمي العولمة التي تقف وراء حملة تدمير أو تزوير الذاكرة التاريخية للأميركيين، لا تهتم بهذا التاريخ. إنهم يعتزمون مواصلة التفكير واتخاذ قرار للشعب. لكنهم لا يدركون في الوقت نفسه أن الدعاية الكاذبة، التي تتمثل بهدم الآثار التاريخية، لا تؤثر فقط على أولئك الذين يستهدفونهم بل تؤثر أيضا على المبدعين.
أمريكا تدمر نفسها، وليس هناك نهاية لذلك.