معضلة المعادلة الأمنية للشرق الأوسط تُرتّب اصطفافات جديدة للإمارات وسوريا

01.08.2019

لا يزال جوهر الصراع في الشرق الأوسط يصبّ مزيداً من الزيت فوق الملفات الملتهبة في المنطقة، تاركاً دولها، والدول الخارجية التي تلعب أدواراً في هذه الملفات، في سباق وصراع مستمر نحو إعادة ترتيب الأهمية الجيوسياسية لدول المنطقة، بما يخدم مصلحة كل طرف مشارك ورؤيته الخاصة لمستقبل المنطقة.

وفي حين تتصارع دول المنطقة وأنظمتها على الحاضر، صراعاً على البقاء، تتصارع من ناحية أخرى القوى الكبرى على مستقبل هذه المنطقة، بكل الوسائل الممكنة، سعياً لجذب عائدات المنطقة المستقبلية وأرباحها باتجاه إحداها، بنسبة أكبر من الأخرى، في استثمار بالغ التكلفة، ومحفوف بالمخاطر قائم على فرض كل دولة كبرى واقعاً راهناً، يحدد اتجاه مسار المستقبل، وذلك ما يشكل جزءاً من ما يدعى "المعادلة الأمنية" للشرق الأوسط، ويحدد طبيعة مرجعيتها.

وبالرغم من الإيحاء الأمني والعسكري لمفهوم "المعادلة الأمنية"، إلا أن التوازن وفرض القوة ليس إلا شكلاً خارجياً لها، لتستند بجوهرها على ربط مصالح الدول بعضها ببعض، إلى درجة تصبح الحرب بين هذه الدول ذات كلفة كبيرة جداً، أكبر من أي عائد متوقع منها، ليصب في المحصلة عائد تفاعل هذه الدول –الصديقة وغير الصديقة- بنسبته الكبرى، في صالح الدولة المرجعية لهذه االمعادلة، بالتالي مفهوم هذه المعادلة هو مفهوم جيواقتصادي، تتخذ من المشاريع الاستراتيجية الاقتصادية، أدوات فعالة، تحوّل مصلحة الصديق والخصم على حد سواء، إلى سلاح فعال لإخضاعهم، وإلزامهم بالمسار المجهز مسبقاً.

وقد شهد الشرق الأوسط مؤخراً، إطلاق أحد أكبر المشاريع الاستراتيجية الاقتصادية، بمبادرة من قبل حكومة الكيان الإسرائيلي، تمثلت بمشروع سكك السلام الإقليمي، كمشروع يربط كل من سلطنة عمان والإمارات بسكك تصل إلى ميناء حيفا في فلسطين المحتلة، مروراً بالأراضي السعودية، والأردنية، رابطاً بجناحه الشرقي السكك القائمة مسبقاً في كل من العراق والكويت، في مشروع أطلقه "بنيامين نتنياهو" رئيس الوزراء الإسرائيلي في زيارة لسلطنة عمان بتاريخ 26/10/2018، على أشلاء جثة جمال الخاشقجي، كدفعة أولى من الرياض لـ"جاريد كوشنر" كبير مستشاري الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، مقابل طي الملف، وإبعاد شبهة التورط عن ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان"، تلته زيارة وزير المواصلات الإسرائيلي "يسرائيل كاتس" في 04/11/2018، للإعلان عن المشروع.

هذا المشروع منح الحكومة الإسرائيلية نفوذاً كبيراً، مكنها من رفع أهميتها الجيوسياسية إلى أقصى المراتب، على حساب تحييد الأهمية الجيوسياسية لكل من سورية ولبنان، بالتالي تحجيم المستقبل الاقتصادي لكلا الدولتين، ليصبح مرور البضائع في الأراضي السورية واللبنانية للوصول إلى المتوسط، ليس أكثر من هدر للوقت والجهد والمال، إضافة إلى أن المشروع أعطى الكيان الإسرائيلي القدرة على ترجيح كفة المعادلة الأمنية للدولة الأكثر مراعاة لمصالحه، في ظل وجود ثلاث معادلات لكل من روسيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية، حيث يشكل مفهوم الأمن الجماعي، كمفهوم جيوبولتيكي أمني، جوهر المعادلة الروسية، ومشروع طريق الحرير الاستراتيجي الاقتصادي، المعادلة الصينية، وتشكل سياسة المحصلة الصفرية لقوى المنطقة، مع الحرص على تخفيض معدل القوة لدى الجميع، من خلال إدارة الصراع، المعادلة الأمريكية.

إلا أن رجحان المعادلة الصينية بسبب طابعها الاقتصادي النفعي البحت، وتأثير النمو الاقتصادي والأرباح على سياسات الحكومات وتوجهاتها، والإدراك المبكر لهذا التأثير من قبل الحكومة الإسرائيلية، جعل من الكيان الإسرائيلي يشرع في تطوير ميناء حيفا المحتل بالتعاقد مع الصين، ليعدل بالنتيجة  مسار طريق الحرير الصيني، ليمر من الإمارات وصولاً إلى فلسطين المحتلة، عن طريق مشروع السكك الأقليمي.
النقاط الإضافية التي حصلت عليها المعادلة الصينية، على حساب الأمريكية والروسية، دفع بكل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، إلى إدخال تعديلات جديدة على معادلتيهما، حيث حاولت واشنطن جذب موسكو لتحالف مؤقت، لمواجهة الصين، على شاكلة التحالف الأمريكي السوفيتي ضد النازية، إلا أن موسكو التي لا تزال تعاني من آلام ودروس الماضي، فضلت تعديل مفهومها، بدمج استراتيجي شامل بين الرؤية الروسية العامة (الأوراسية)، والرؤية الصينية، توّج بعناق حار بين رئيسي البلدين، خلال لقائهما الاستثنائي في موسكو 05/06/2019، حول الاصطفاف الدولي من ثلاثي، إلى ثنائي (موسكو وبكين في مواجهة واشنطن) بأطرافه الرئيسية الثلاث.

وقد ألقت المعادلة الأمنية الجديدة لروسيا والصين بظلالها على الشرق الأوسط، وسببت سلسلة من التأثيرات المباشرة على سياسات حكوماته، كان أكثرها وضوحاً، على الإمارات وسورية، حيث تراجعت الإمارات عن استراتيجية  السيطرة على المضائق والموانئ، الموجهة ضد تهميش طريق الحرير الصيني للإمارات، والتفافه عليها لصالح باكستان وموانئها، وأدى هذا التراجع بالنتيجة إلى انسحاب القوات الإماراتية من باب المندب والموانئ المطلة عليه في اليمن، وزيادة التنسيق الأمني مع طهران من أجل مضيق هرمز بوفد عسكري إماراتي زار إيران في 30/07/2019.

في حين دفعت المعادلة الأمنية الجديدة الحكومة السورية إلى استقبال الرئيس السوري "بشار الأسد" لوزير الشؤون الخارجية العماني "يوسف بن علوي" بدمشق في 07/07/2019، وإطلاق سلسلة من الجولات الخارجية، لتنسيق الحيثيات الجديدة، بدأت بتلبية الدعوة الصينية، وإرسال وزير خارجيتها إلى بكين في 16/07/2018، والعمل على إزالة التوتر في العلاقة مع الأردن، بعد ادعاء الأردن بحجز مواطنين من قبل الحكومة السورية، والتحضير لزيارة وزير النقل السوري لعمّان، في مسعى واضح لدمج مشروع السكك الحديدة " محور شمال-جنوب" التي أعلنت عنه الحكومة السورية في العام الماضي، والذي يمتد من الأردن إلى تركيا، بعقدة السكك في الأردن، والتي تنطلق منها الحكومة الإسرائيلية في مشروعها للسكك الحديدة. الأمر الذي يطرح تساؤلاً غاية في الأهمية حول هدف مشاريع الحكومة السورية، هل هو المشاركة غير المعلنة في المشروع الإسرائيلي تحت ضغط المعادلة الامنية الروسية الصينية الجديدة، أم أنها تهدف إلى المنافسة مع المشروع؟؟

بمراجعة بسيطة لخريطة المنطقة، ندرك على الفور أن المنافسة شبه مستحيلة، فطريق الحرير الصيني يركز بالدرجة الأولى على العبور الأسرع والأوفر إلى البحر المتوسط، ما يعطي الأفضلية لميناء حيفا، والمرور من الأراضي الفلسطينية المحتلة، بدلاً من قطع مئات الكيلومترات للوصول إلى سواحل ذات البحر في سورية أو لبنان، بالتالي لا يمكن أن تستفيد الحكومة السورية أو تنافس في مشاريعها للحصول على العبور الدولي وعوائده من خلال الأراضي السورية، وبنفس الوقت ليس من مصلحة الحكومة السورية إرسال البضائع والمنتجات السورية بعيداً عن موانئها في كل هذا الطريق، أي أن مفهوم المشاركة غير وارد أيضاً، لسبب بسيط وهو انتفاء المصلحة.

إلا أن حقيقة المشروع تكمن في المساعي الروسية الصينية، لتحويل مشروع سكك السلام الأقليمي، لسلاح ضاغط بيد موسكو وبكين، على الحكومة الإسرائيلية، بدلاً من سلاح بيد الحكومة الإسرائيلية، كمسار أساسي ووحيد، وذلك بخلق مسار جديد ضاغط على الكيان الإسرائيلي، يربط عقدة السكك في الأردن بميناء طرطوس، الذي استأجرته موسكو لخمسة عقود قادمة، ويعمل على حل مشكلة رفض التطبيع العربي مع الكيان الإسرائيلي، كأحد مشاكل المشروع، من خلال الطريق البديل، والذي تعمل سلطنة عمان بالنيابة عن الإمارات والسعودية على تنسيقه مع الحكومة السورية، وتعمل الحكومة السورية بالمقابل من خلال الزيارات الدبلوماسية على الاستفادة من تجربة "مينسك" عاصمة بيلاروسيا، في التنسيق الاستراتيجي المشترك مع موسكو، لبناء صيغة قانونية وسياسية جديدة، تلائم المعادلة الأمنية الروسية الصينية.
هذه المتحوّلات لم تغفل عنها إسرائيل والولايات المتحدة الامريكية على لإطلاق، بل جعلت واشنطن تعيد تنشيط، خلاياها النائمة في الجنوب السوري، لإطلاق مرحلة جديدة من الاضطرابات الأمنية في درعا وريفها، كممر للمشروع الجديد، بالتزامن مع تخلي واشنطن عن المجموعات المسلحة في إدلب، لخلق مواجهة كبيرة بين روسيا وسورية من جهة، وتركيا من جهة ثانية.

في النتيجة سيمتدّ تأثير هذه المتغيرات إلى أبعد من الإمارات وسورية، ليشمل البيئة الاستراتيجية للشرق الأوسط، كمحددات أساسية لتلك البيئة، وستدفع كل دول المنطقة إلى شكل جديد من الصراع، يرتكز بأساسه على الاصطفاف بين هاتين المعادلتين، والتي قد تخلق بمحصلتها، مقاربات جديدة بين دول لطالما كانت مشهورة بالعداء لبعضها البعض، وتدخل بالمقابل دول خارجية أخرى على مسار الصراع في الشرق الأوسط.