الطريق إلى نظام عالمي جديد
من المعروف أن المراحل الانتقالية تحتاج وقتا قد يطول أو يقصر وذلك حسب الظروف وحسب الكيانات المرتبطة بهذه المرحلة، سواء كان هذه الكيانات مجتمعات أو أنظمة أو غير ذلك، فكيف إذا كانت هذه المرحلة الانتقالية عالمية بامتياز، حيث تسعى الولايات المتحدة الأمريكية كي تبقى القائد العالمي الوحيد، بينما تسعى كل من روسيا والصين ومن معهما من حلفاء وأصدقاء لكسر الهيمنة الأمريكية على مصير العالم وعلى القرار العالمي من خلال قيادة قطب آخر في مواجهة البلطجة الأمريكية. لذلك يستنفر الطرفان جميع خططهما ووسائلهما لتحقيق النجاح في هذه المرحلة التي من المؤكد أنها ستغيّر وجه العالم، لدرجة أن تتجاوز سخونة هذه المواجهة كل المستويات السابقة للحروب الباردة، ولكن الشيء المطمئن هو أن كلا الطرفين يسعيان لكي تبقى هذه الحرب بعيدة عن العمل العسكري المباشر، رغم كل التهديدات والاستفزازات المتبادلة.
ولو حاولنا رصد أسلوب عمل الأطراف الفاعلة في هذه المرحلة سنجد أن:
الولايات المتحدة الأمريكية
كانت الولايات المتحدة تخطط لبسط سيطرتها المطلقة على منطقة الشرق الأوسط بواسطة ذراعيها الصهيوني بقيادة إسرائيل والإخواني بقيادة تركيا، وذلك من خلال ما سمي "الربيع العربي" الذي كان مُخططاً له أن يصل إلى لبنان للقضاء على حزب الله الذي سيكون مُجبرا على ترك سلاحه وتغيير سياساته، بعد أن يكون قد فقد سنده السوري وبالتالي فقد تواصله مع إيران طبعا لو نجح مخططهم بالسيطرة على سوريا. ولكن الولايات المتحدة الأمريكية تفاجأت بالصمود السوري وبالدعم القوي والسريع للطرف الآخر بقيادة روسيا، ولذلك دخلت بحالة واضحة من التخبّط، وخاصة في سياستها الخارجية التي بدأ يشوبها التناقض والتردّد، مما أجبر الولايات المتحدة على محاولة قطع الطريق على أطراف المحور الآخر وذلك من خلال العقوبات والحصار، وأيضاً من خلال تشكيل خطّ دفاع يبدأ من الخليج مروراً بباكستان وصولا إلى محيط روسيا الحيوي المتمثّل بدول أوربا الشرقية، كذلك بنشر الصواريخ الأمريكية في معظم دول أوروبا الشرقية. وبرغم كل الحسابات يبدو أن أمريكا فوجئت بأمرين مؤثرين، الأول هو توجه إسرائيل نحو الصين، في محاولة ليكون البديل حاضراً في حال التخلي الأمريكي عن كيانهم، وهذا ما ورد على لسان أكثر من محلّل سياسي إسرائيلي. والثاني هو وباء كورونا الذي أظهر ضعف النظام الأمريكي في التصدي لمثل هذه المفاجآت، بينما تقدمت كلّ من روسيا والصين لتكونان مساعدتين فعّالتين للكثير من الدول، ومنها الدول التي كانت تعولّ على المساعدة الأمريكية عند التعرض لمثل هذه الأخطار، ولذلك رأينا الطائرات الصينية التي تحمل المعونات الطبيّة لمعظم الدول المُتضرّرة كما رأينا الجنود الروس في الشوارع الايطالية، بينما كان الجنود الأمريكيون يسطون على ما تيسير من مساعدات متوجهة لدول تستغيث.
روسيا
روسيا التي تدخّلت بقوّة في الحرب السورية وساعدت بصمود الدولة السورية وانتصاراها، بدأت تتطلّع لأن تكون لاعباً مهماً في المنطقة إن لم يكن الأهم، ولذلك تسعى لاستقطاب معظم دول المنطقة، وتقدّم نفسها كوسيط لحلّ المشاكل، وقد نجحت في ذلك إلى حدّ بعيد. ويكفي أن نرى مواقف كلّ من السعودية وإسرائيل حتّى نتلمّس الراحة والثقة لكلتيهما في التعامل مع روسيا، بل والتعويل عليها في حلّ الكثير من المشاكل. كما تركيا التي تُعتبر قوّة أطلسية فاعلة ولكنّها تتطلع لتعاون كبير ودائم مع روسيا. بهذا الهدوء تمدّ روسيا جسورها نحو حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في محاولة لجذبهم ولو بعد حين، بذات الوقت لا تنفكّ تلوّح في وجه الولايات المتحدة الأمريكية بقوّتها العسكرية وبسلاحها المتطوّر لدرجة التهديد باستخدامه دفاعاً عن نفسها بما في ذلك السلاح النووي. وفي مبادرة لمنع أسقاط حلفائها في الأمريكيتين، تقف روسيا بقوّة وثبات في وجه المخطّطات الأمريكية الهادفة إلى ذلك.
الدول الأوروبية
شيئاً فشيئاً تجد الدول الأوربية نفسها خارج الرعاية الأمريكية، ولذلك يتجلّى همّها الأكبر في المحافظة على كياناتها في ظل أوضاع اقتصادية متردّية، وأوضاع أمنية ليست على ما يرام، ولذلك نراها باحثة عن الفتات، وبطبيعة الحال ليس لها ذلك الدور العالمي المؤثر.
الصين
مازال موقف الصين لا يعكس حجمها الحقيقي، أو لنقل بأنها تفضّل العمل بعيداً عن الأضواء، ولعلّ همّها الأول هو استكمال البناء الاقتصادي الذي سيحجز لها مكاناً عالمياً متقدّماً، ولذلك نراها قريبة من الحلف الروسي مع محاولة تفادي الغضب الأمريكي، بدليل التزام معظم شركاتها بالعقوبات المفروضة من قبل الأمريكي على أيّة دولة.
إيران
استطاعت إيران حجز مكاناً مرموقاً في القطب الجديد المتشكّل، وذلك بفضل قوّتها الذاتية وقوّة محورها المقاوم وبفضل تحالفها الوثيق مع روسيا.
تركيا
مازالت تركيا تلعب على حبال المحورين مستفيدةً من كليهما في ظلّ حاجة كلّ محور لوجودها إلى جانبه، ولكن قناعتنا هي أن التركي لا يستطيع العيش خارج الحضن الأمريكي وهذا ما يضعه الجميع في حساباتهم ولاسيما روسيا والصين.
"إسرائيل"
تعيش "إسرائيل" حالة رعبٍ ولاسيما أنّ الخطر المقاوم قد أصبح على حدودها، وذلك في ظل الجفاء الروسي وتزايد عدم الثقة بالأمريكي، وما يزيد من حالة الرعب هذه هو اقناع شرائح كبيرة داخل المجتمع الإسرائيلي بأن أفقهم بدولة تملك مقومات البقاء يضيق شيئاً فشيئاً وهذا ما تعكسه الأعداد المتزايدة من الصهاينة الذين بدأوا بهجرة معاكسة.
وهنا يُحسب لسوريا وحتى باعتراف أعدائها بأنّها كانت نقطة الارتكاز الأولى والأقوى التي استندت إليها روسيا في انطلاقتها نحو مكانها الطبيعي كقطب عالمي آخر.