النظام المريض: أزمة النظام العالمي في ظل جائحة كورونا

06.04.2020

تعد جائحة كورونا التي ضربت النظام العالمي منذ كانون الأول/2019 من أهم الازمات في القرن الحادي والعشرين بل أنها تفوق في تهديدها لاستقرار واستمرار النظام ما شكلته الأزمة المالية العالمية لعام 2008، إذ ان كورونا لم يصب أجساد البشر فحسب بل أصاب أيديولوجيا النظام العالمي لما بعد الحرب الباردة وأدخله للعناية المركزة كما أدخل آلاف المواطنين حول العالم.

فقد كشفت الجائحة الوبائية هذه عن خلل في أيديولوجيا (الليبرالية الجديدة) التي يتبعها النظام العالمي منذ نهاية الحرب الباردة تمثل في عجز النظم الاقتصادية المتقدمة عن مواجهة واحتواء تفشي الفايروس من خلال ضعف الإجراءات التي اتبعتها وكذلك ضعف البنية التحتية الصحية فيها وسوء استجابتها لمخاطر الأزمة ، إذ أثر نمط التفكير بالمنفعة الاقتصادية  لدى قادة هذه الدول إلى تأخير إجراءات الحجر خشية أن تؤدي هذه الإجراءات إلى خسائر اقتصادية، كما أدى انتشار الجائحة في أوروبا إلى غياب مفردات التكامل والتعاون الأوروبية لتحل محلها مفردات السيادة والدولتية واأامن القومي كما وحلت سياسات الحدود المغلقة بدل سياسات الحدود المفتوحة التي كانت سائدة فيما بين دول الاتحاد الأوروبي بفعل منظومة التكامل الأوروبية، حتى أنه لم يعد هناك أهمية لنظام شينغن الذي يسود بين الدول الأوروبية، مما شكل ضربة كبيرة للايدولوجيا الليبرالية بشقيها الكلاسيكي والجديد والقائمة على حرية الحركة والتجارة وإزالة العقبات والقيود الحدودية  والتي يعد الاتحاد الأوروبي من أهم نموذج تطبيقي لها.

لقد بدى سلوك الدول الأوروبية تجاه بعضها البعض أكثر دولتية تجاه انتشار الوباء على حساب قيم التعاون والتكامل الأوروبي، إذ أغلقت المانيا وفرنسا الحدود أمام الدول التي ظهرت بها الإصابات وهي إيطاليا وإسبانيا كما أنها لم توافق على منحها مساعدات عاجلة لوقف تفشي الوباء، وما يدل على ذلك هو تصريحات رئيس الوزراء الإيطالي (جوسيبي كونتي) الذي حذر من احتمالية أن "يفقد الاتحاد الأوروبي سبب وجوده" في حال "ارتكابه خيارات مأساوية" في مكافحة فايروس كورونا كما توقع كساداً كبيرا يمكن أن يصيب دول الاتحاد الأوروبي، إذ قال خلال جلسة للمجلس الأوروبي في 26/3/2020 شهدت مواجهات شديدة وصريحة "أمثّل بلدا يعاني كثيرا، ولا يمكن أن أسمح لنفسي بالمماطلة"  ، مما يكشف مرارة الواقع الذي تمر به إيطاليا واقع انتشار الوباء وخذلان الأصدقاء.

كما لم يختلف موقف اسبانيا كثيرا وهي ثاني اكبر متضرر في أوروبا من الوباء بعد إيطاليا اذ حذر رئيس الوزراء الإسباني (بيدرو سانشيز) من أن "مستقبل الاتحاد الأوروبي سيكون على المحك"، إذا فشلت المنظومة الإقليمية باتخاذ موقف موحد للتصدي لتفشي فيروس كورونا الجديد، الذي ألحق أضرارا فادحة ببعض دول الاتحاد، مثل إيطاليا واسبانيا، كما دعا سانشيز الدول الأوروبية إلى تنفيذ خطة جديدة تهدف إلى تخفيف العبء عن البلدان الأشد تضررا، وتخفيف الضربة الآتية بسبب تراجع الأنشطة الاقتصادية، في أوروبا على وجه الخصوص والعالم عموما .

ولم يكن الوضع مختلفا على الجانب الاخر من المحيط الأطلسي ففي الولايات المتحدة كان اهم ما يهم ترامب هو مخاوفه من ان يؤدي الاغلاق الى تراجع المكاسب الاقتصادية التي تحسب لإدارته والتي حققها في السنوات الماضية، فقد اجل ترامب الاغلاق حتى أدى ذلك الى تفشي اكبر للوباء في الولايات المتحدة الى ان أصبحت اكبر بؤرة للوباء في العالم ، ترافق ذلك مع عجز المنظومة الصحية الامريكية امام احتواء الإصابات وعلاجها ، فقد كشف كورونا فشل الليبرالية الجديدة في توفير بنية تحتية صحية او ان تقدم استراتيجية مناسبة لمواجهة الوباء.

ان ازمة الفايروس أدت ايضا الى بروز ظاهرة قرصنة المعدات الطبية فيما بين الدول ، فقد اشتكت اسبانيا من استيلاء تركيا على طائرة شحن تحمل معدات طبية في طريقها الى اسبانيا ، كما اشتكت كل من فرنسا والمانيا وكندا من قرصنة أمريكية مماثلة على شحنات من الكمامات الطبية كانت هذه الدول قد اشترتها من الصين وقد استولت عليها الولايات المتحدة الامريكية مما يعكس بروز سلوك غير تقليدي وجديد من نوعه  من جانب عدد من الدول المؤثرة في العلاقات الدولية.

وبدلا من قيام كبرى الدول الرأسمالية بانقاذ إيطاليا واسبانيا في وقت تفشي الوباء فيهما فأنها قامت بمهاجمة الصين وروسيا وانتقادهما على عمليات الإنقاذ والمساعدات الطبية التي يقدمانها الى كل من إيطاليا واسبانيا مدعية ان هذه المساعدات هي لتدعيم القوة الناعمة الصينية  ومتهمة الصين بنشر الوباء.

ويبدوا انهم لجأوا لهذه الاتهامات بعد ان انكشف عجزهم على احتواء الفايروس كما فعلت الصين، لقد خشي قادة الدول الكبرى من ان يؤدي نجاح الصين في احتواء الوباء وكذلك تقديمها للمساعدات والخبرات الطبية لعدد من الدول المصابة بما فيها الدول الأوروبية إيطاليا واسبانيا ، الى الخوف من ان تعمل هذه المساعدات كقوة ناعمة لصالح الصين تؤدي لهدم ثقة مواطني الدول الغربية بحكوماتهم  ، وهذا ما صرح به القادة الغربيين الذين اتهموا الصين باستغلال الوباء لتحقيق مكاسب في قوتها الناعمة وتحسين صورتها في العالم لذلك سارعوا الى اتهام الصين بنشر الفايروس اذ وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كورنا  ب(الفايروس الصيني) في تصريح صحفي له ، مما صعد من التمييز العنصري ضد الصينيين اذ شنت وسائل الاعلام الغربية هجوما على الصين والعادات الغذائية الصينية كونها السبب في ظهور الفايروس وهي حملة هدفها النيل من مساعي الصين لتصدر النظام الدولي والتي من المحتمل ان تخرج من هذه الازمة كدولة عظمى، وهو ما يؤشر على احتمالية تحقق انتقال السلطة في النظام الدولي من الغرب للشرق بعد ازمة كورونا.

ان كل هذه الاحداث تدعونا للتفكير مجدداً حول جدوى قيم النظام الدولي السائد والذي تهيمن عليه الأيديولوجيا النيوليبرالية التي تحد من سلطة الدولة وتعزز افاق التكامل والتعاون بين الدول ، فقد غاب التعاون الدولي  بمجرد تعرض هذه الدول لازمة تهدد وجودها وحلت محله القرصنة وغلق الحدود والامتناع عن تقديم المساعدات الانسانية ، كما عززت الازمة من تأثير الاحزاب الشعبوية في الدول الغربية والتي باتت تطالب  بمزيد من السيادة الوطنية لبلدانها بوجه سياسات التكامل السائدة وتعزيز الإجراءات التي تحد من حرية الحركة والتنقل بين الحدود الوطنية.
  كما كشفت لنا ان الأنظمة المتقدمة قد اهملت بشكل كبير القطاع الصحي مقابل تضخيم الموازنات العسكرية والدفاعية، هذه الجائحة قد تدفع الدول مستقبلا للتفكير في دعم الأبحاث العلمية وتخصيص موازنات كبيرة لها، كما ان مفهوما جديدا للأمن بات الاهتمام به اكثر الحاحا من أي وقت مضى وهو الامن الوبائي والردع البيولوجي للتصدي للتهديد الذي يفرضه انتشار الأوبئة على الدول  مستقبلا. 

وفي هذا الصدد أشار وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر في مقال له في وول ستريت جورنال ، بأن فيروس كورونا سيغير النظام العالمي للأبد ، اذ اكد على ان الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي أطلقها فايروس كورونا قد تستمر لأجيال عديدة، كما بين ان على الولايات المتحدة ان تضع بحسبانها مواجهة تحديات المرض محليا وعالميا من خلال ثلاث مجالات أولها الاهتمام بتطوير البحث العلمي وثانيها معالجة الاضرار الاقتصادية المحتملة جراء تفشي الفايروس والثالثة هي الحفاظ على مبادئ النظام العالمي الليبرالي .

بالتالي تبرز هنا تساؤلات أساسية هل سيسترد النظام العالمي النيوليبرالي عافيته مجددا بعد ازمة كورونا؟ أم انه سيتحول الى نمط آخر تتصاعد فيه من جديد الروح القومية ومبادئ الحفاظ على سيادة الدولة والامن القومي بالتزامن مع صعود الحركات الشعبوية في الحضارة الغربية؟، ام ان النظام العالمي سيتداعى ليتم التوافق على تشكيل نظام جديد على وفق أيديولوجيا جديدة تختلف عن الأيديولوجيا الليبرالية الجديدة ؟ وفي ظل حالة الغموض والضبابية التي تسود العالم اليوم حول مستقبله في مرحلة ما بعد كورونا تبقى الاحتمالات مفتوحة على كل السيناريوهات.