الشرق الأوسط في حروب الغاز... والمياه

26.02.2018

للحروب أهدافها غير المرئية لكنها تنكشف مع تطوّر المعارك. ألم يعلن رئيس وزراء بريطانيا السابق ونستون تشرشل في 1945 بعد انتصار جيوشه على الألمان في حرب العلمين المصرية «حرفياً»: «لقد انتصرنا على بحر من الزيت». وكان يقصد البترول العربي من ليبيا إلى شبه جزيرة العرب، أما الآن فالشرق الأوسط، ميدان لحربين اثنتين: حرب الغاز التي بدأت، وحروب المياه التي يجري التحضّر لها.. بدءاً من 2020.

وهكذا تنفضح شعارات الحروب وعناوينها. ولطالما تذرّعت القوى الأوروبية بأنها تريد نشر الحضارة في أفريقيا وآسيا والأميركتين. إلا أنها اكتفت بسرقة الموارد الاقتصادية لهذه المناطق ونسيت حكاية الحضارة. وقلّدهم ورثاؤهم الاميركيون الذين باسم نشر الديمقراطية ومحاربة الإرهاب يحاولون الدخول في «نادي الغاز» الذي تصادف أنهم ليسوا من منتجيه. وباستثناء قطر التي تحتلّ المرتبة الثالثة في إنتاج الغاز، فإنّ الدول الأساسية في إنتاجه الأولى روسيا والثانية إيران والرابعة مصر والخامسة الساحل السوري، ليست من مقلديها ومحمييها. وبالإضافة إلى انّ الغاز الصخري الموجود لديها وعند الصينيين أيضاً شديد الكلفة قياساً لأسعاره الحالية. ولعلنا بناء على ذلك نستوعب أسباب الهجوم السعودي ـ الأميركي على اليمن، حيث يتردّد عن احتوائه كميات كبيرة من الغاز.

لذلك فإنّ ما يجري في الشرق الأوسط لجهة الحروب المتواصلة في سورية والعراق والاضطرابات في مصر وجحيم ليبيا والضغوط على إيران والهجوم على اليمن، تندرج كلها في إطار معركة الغاز المفتوحة على الاحتمالات كلّها.. والأسباب بديهية لأنّ النفط في المرحلة الثالثة من الإنتاج والغاز لم يبدأ في مرحلته الأولى، وتصنيع الدول يزداد. وهذا يعني ازدياد الطلب على الطاقة، هناك سبب إضافي يتعلق بأنّ الدول الصناعية الكبرى لا تمتلك موارد طاقة. وهي الصين منها وألمانيا واليابان والولايات المتحدة والهند ونمور شرق آسيا. الأمر الذي يعني انّ من يملك الغاز لا ينتمي إلى العالم الصناعي والذي ينتمي إلى العالم الصناعي ليس لديه موارد طاقة.

وبما أنّ السياسة الأميركية تمارس سيطرة أحادية على العالم بدأت تهتز تحت وقع العودة الروسية إلى الأحداث واجتياح السلع الصينية العالم ونجاح إيران في مقاومة الحصار والاضطهاد مع التحوّل قوة إقليمية.. لذلك تضغط واشنطن بكلّ قواها للسيطرة على مصر وسورية ولبنان والعراق وتغيير نظام الحكم في إيران بالاضطرابات الداخلية ولجم روسيا.. لذلك يسهل فهم العودة العسكرية الأميركية إلى العراق واحتلال 25 في المئة في شرق سورية، ومقايضة السيسي المصري بانتخابه مجدّداً لرئاسة مصر مقابل «امركة إمكانات مصر من الغاز». وهذا بدأ العمل به مع توقيع شركات مصرية اتفاقات مع «إسرائيل» لشراء غاز بـ15 مليار دولار. وهذا يعني ربطاً اقتصادياً بين الدولتين في مرحلة تعلن واشنطن تهديداً كاملاً «للقدس» مقابل صمت عربي شديد التواطؤ.

هذه ليست مجرد اتهامات تحشيدية.. فهناك جيوش أميركية في كلّ البلدان المضطربة.. إلى جانب دعم عسكري قوي لمجموعات في مناطق سورية والعراق، واليمن، تحتوي على الغاز وشجعها الأميركيون على الانفصال..

هذه الحروب العسكرية من أجل الغاز.. وما الضغوط الأميركية ـ الإسرائيلية على لبنان إلا من أجل إحداث توتر بين الدولة اللبنانية وحزب الله على أساس عناوين مضحكة حول السياسة والدولة.. والحقيقة أنها محاولات للقضاء على نفوذ حزب الله للاستفراد بالغاز اللبناني والسوري.. فهذه حرب السياسة الأميركية التي لن تتوقف وقد ترتدي لبوساً جديداً من أجل تحقيق أغراضها.

فواشنطن تعرف انّ الجفاف يضرب منطقة الشرق الأوسط الذي يخضع أساساً للمعادلة التالية:

عشرة في المئة من سكان العالم لا يحوزون إلا على اثنين في المئة من مياه الأرض. ومصاب بجفاف هجر الريفيين من مناطقهم ودفعهم إلى استيطان ضواحي البؤس في المدن.. كلّ المناطق العربية تخضع لهذه المعادلة.. ويُضاف إليها أنّ سكان الشرق الأوسط هم الأعلى معدّلاً في الولادات.. ولديه أنظمة سياسية متخلفة تعمَّم الأساطير والخرافات، وتترك الناس لمصائرهم بذريعة انّ الله هو الذي يوفر رزق الناس..

بواقع الحال تسيطر تركيا وإثيوبيا على مصادر أهمّ أنهار عابرة للحدود نحو مناطق العرب وتريد «إسرائيل» ضمّ مصادر المياه اللبنانية والسورية إلى كيانها الاستعماري في فلسطين المحتلة.

لجهة تركيا، فإنّ نهرَيْ الفرات ودجلة ينبعان من أراضيها ويعبران سورية وصولاً إلى العراق، وهاتان الدولتان تعتمدان كلياً على مياه هذين النهرين، خصوصاً العراق، لأنّ دجلة يمرّ مسافة قليلة جداً التي لا تستفيد من مياهه حرصاً على مصالح العراق، وعلى الرغم من أنّ هذين النهرين دوليان لأنهما عابران للحدود، وتمتلك تركيا الكثير من الأنهار الأخرى.. إلا أنّ أنقرة بدأت بعمليات تسييس مياههما لربط بغداد ودمشق بها، فأنشأت سدوداً وهي بصدد إنشاء أخرى.. وهذا من شأنه تقليص حصص الدولتين من مياه هذين النهرين.

هناك أسباب أرجأت الصراع التركي مع العراق وسورية حول مياه النهرين إلى مراحل أخرى. وهي نشوب الاضطرابات في البلدين وتوقف الفلاحين فيهما عن مزاولة أعمالهم الزراعية. هذا يعني بالأرقام تراجع الاستهلاك المائي فيما كان يفترض أن يزداد لو كانت الأمور فيهما طبيعية. لذلك فإنّ الصراع بين أنقرة وبغداد ودمشق مؤجّل إلى ما بعد انتهاء الأحداث. لكنه لن يكون سهلاً لحاجة الدولتين إلى مياه تشكل حياة نصف السكان فيهما، ونجحت انقرة في حجزها في سدود أنشأتها وأخرى بنتها، والقاهرة تتعرّض لأكبر سرقة لمياه النيل. بمحاربة أميركية ـ إسرائيلية. تضع كامل افريقيا تحت خطر حرب كبيرة.. كذلك تمارس «إسرائيل» هيمنة مائية. وهذا يفسّر أسباب تمسكها باحتلال الجولان السوري الذي تتحوّل أمطاره إلى بحيرة طبرية مع مياه نهر بانياس السوري المحتلّ. بالإضافة إلى سيطرتها على نهر الأردن وحرمانها الأردن والفلسطينيين واللبنانيين والسوريين من مياه الحاصباني والوزاني وبانياس الذين يشكلون مجتمعين روافد للأردن انطلاقاً من طبرية. وهذه أيضاً دوافع حرب مرجأة إلى ما بعد الأحداث في سورية ولبنان.

لجهة الخليج فهي لا تتمتع بمواصفات البلدان الدائمة، لأن لا مصادر مياه فيها وهذا سبب عدم نشوء دول في شبه الجزيرة قبل الإسلام الذي أنشأ دولاً على ضفاف دجلة وبردى.. لذلك فإنّ استمرار هذه الدول رهن باستمرار القدرة على استثمار النفط والغاز وتحلية مياه البحر.

أما الجزء الأفريقي من العالم العربي فمأساوي بدوره، بالمياه لا تتوازى مع ارتفاع معدل السكان. ما يخلق فجوة كبيرة لا تنفك تتضخم قبل الانفجار الكبير.

وربما ينجو المغرب لتوافر مياه غزيرة في جباله، وهكذا يخضع العالم العربي لمعادلة الشحّ في المياه التي قد تؤدّي إلى حروب مصرية مع أثيوبيا والسودان وحروب عراقية ـ سورية مع تركيا ولبنانية – سورية مع «إسرائيل» وحروب داخلية في الجزيرة العربية للسيطرة على الغاز الذي يمكن أن يشكل بديلاً في تحلية مياه البحر، السبب هذا من أسباب الصراع القطري ـ السعودي.

لذلك تشعر واشنطن أنّ بإمكان حروب المياه في الشرق الأوسط ان تسمح لها مجدّداً بالسيطرة على موارد الغاز والسلطات السياسية وتبقيها على رأس الأحادية العالمية… وقد تحاول تأسيس حرب سريعة. بتدبير حرب مصرية ـ أفريقية حول النيل لتحويل وجهة القاهرة نهائياً عن الشرق الأوسط وحصرها في المجال الأفريقي فقط. فهذا يستنزف مصر ويُرجعها لواشنطن دائماً، لا سيما أنّ إثيوبيا تكاد تنتهي من بناء سدّ النهضة الذي يحجز مياه النيل وينقص حصة مصر. ما يدفع إلى التساؤل عن أسباب تأييد «إسرائيل» لإثيوبيا وصمت أميركا. أتراها تريد تنظيم حرب أفريقية؟ لاستنزاف إمكاناتها.

هذه هي المعطيات التي تعطي أميركا أملاً في المحافظة على دورها العالمي.. وقد ترفع من هذا الأمل بإدارة قريبة لحروب المياه في المنطقة وتسعى لمواصلتها؟

لكن قوى المقاومات العربية اعتادت على التصدّي منذ ألف عام وتمكنت دائماً من ابتكار حلول تاريخية لكلّ المشاكل التاريخية.