الرئيس ترامب ومستقبل أميركا ما بعد الليبرالية

15.11.2016

في شهر آب/أغسطس من هذا العام، أظهر نيت سيلفر، الطفل الأعجوبة خبير استطلاعات الرأي، الذي تنبأ بانتخابات 2012 بدقة خارقة، أن دونالد ترامب كان لديه فقط نسبة 13٪ للفوز في الانتخابات. ترددت أصداء وملامح مثل هذا النصر عبر وسائل المؤسسة الإعلامية. ومع حلول الأول من تشرين الثاني/نوفمبر، تبنأت شركة موديز أناليكتيك بأن تفوز هيلاري بـ332 صوتا، والذي أثار بحد ذاته عددا من المقالات التي كانت تحتفل بتتويج أكيد لكلينتون في الانتخابات.

ولكن كيف أمكن أن تكون الاستطلاعات مضللة بهذا الشكل، وكيف أمكن أن تكون وسائل الإعلام مخطئة كذلك؟ نحتاج أن نفهم أن المؤسسة الإعلامية القديمة رسخت عن عمد رؤية علمانية للحياة والتي ترى العالم على أنه مجموعتين من البشر: أولئك الذين يؤيدون رؤية ليبرالية علمانية للحياة، وأولئك الذين يقاومون رؤية علمانية للحياة والذين هم بالتالي وحسب التعريف غير عقلانيين وقمعيين. لذا فإن وسائل الإعلام المتنوعة ومختلف الوسائل الصحفية عاجزة إلى حد كبير عن الفهم والتفاعل مع المفاهيم غير العلمانية للحياة.

ربما كان انحسار هذه الرؤية العلمانية للحياة أهم مؤشر لفوز ترامب.

إننا ندخل الآن إلى ما يسميه العلماء عصر ما بعد العلمانية. كما يوحي الاسم، بمجتمع ما بعد العلمانية والذي سيكون واحدا بدون تأييد لإحدى رؤيتي الالتزامات الأساسية لليبرالية العلمانية: العقلانية العلمية والاستقلالية الشخصية أو القيم الحياتية. الأمر الذي يعني أساسا أن مجتمع ما بعد العلمانية على وشك العودة للدين والقيم الدينية في الساحة العامة. لقد لمسنا ذلك مع ظهور مجالس الشريعة في المملكة المتحدة والتي تنظر في تحكيم النزاعات بين المسلمين، وعودة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية كقوة سياسية وأخلاقية وثقافية كبرى في الفدرالية الروسية، وإحياء الإمبراطوري الشنتوية في أعلى المستويات في الحكومة اليابانية، وتنشيط الفلسفة الكونفوشيوسية بين المسؤولين الصينيين والقومية الهندوسية في الهند، والإسلام في تركيا ... وغير ذلك.

هنا في الولايات المتحدة، توضح عمليات مماثلة الانهيار المتزايد للتعددية الثقافية والتصويب السياسي، واللذين يمثلان معا منظومة القيم العلمانية. إن التعددية الثقافية هي فكرة أن أمريكا تتكون من عدد كبير من الهويات الثقافية بحيث أن الأفراد يحددون ما يريدون اختياره بأنفسهم، مع عدم وجود ثقافة واحدة مهيمنة أو متميزة. والتصويب السياسي هو مجرد ارتباط بين التعددية الثقافية والدولة، حيث تحابي سياسات الحكومة بعض الجماعات الثقافية أو العرقية على حساب الآخرين. وبالتالي، أمكن لفان جونز، في ليلة فوز ترامب، أن يتحدث على شبكة سي إن إن بأن تصويت البيض لمصالحهم هو تعصب وعنصرية في حين أن تصويت السود لمصالحهم هو تحرر وعدالة.

في كثير من النواحي، هذه الرؤية للحياة الثقافية المتعددة الصحيحة سياسيا على حافة الانهيار. ومن ناحية أخرى، كان الاقتراح المتشدد للسياسات المناهضة للهجرة - يعتبر المسمار الأخير في نعش المرشح الجمهوري – والذي فاز بأغلبية ساحقة في صناديق الاقتراع.

من جهة أخرى، إن التعددية الثقافية تتحول إلى القبلية والبلقنة في اليسار السياسي. وإن حركة "حياة السود تهم"، على سبيل المثال، ليست إلا حركة عرقية قومية، وهي نوع ذو طابع قبلي مطلق ترفض الأفكار العلمانية بالتسامح والشمولية ... تنهار معايير التعددية الثقافية العلمانية

والتسامح في كل مكان، وليس فقط بسبب موجة من المشاعر الشعبوية القومية من اليمين، ولكن أيضا بسبب انقسام الولاءات التي تحدث كنتيجة للتعددية الثقافية.

وعلاوة على ذلك، ينحو هذا بدوره تجاه المشاعر القومية التي نشهدها في جميع أنحاء العالم ونطوي ذلك في الواقع على عودة للهويات الدينية التاريخية والالتزامات الأخلاقية، وذلك إلى حد كبير بسبب الترابط بين القومية والتقاليد المنبعثة من جديد. وتميل الشعوب في مواجهة الأخطار التي تهدد الهوية الوطنية أو القومية من خلال عمليات علمانية معولمة إلى تأكيد رموز الهوية الثقافية مثل اللغة والعادات والتقاليد، والدين وآليات المقاومة.

يمكننا أن نرى دليلا على وجود تنشيط الدين المدني هنا في الداخل. في خطابه الانتخابي الأخير في ماين، قال ترامب: "تخيلوا ما يمكن لبلدنا تحقيقه إذا بدأنا العمل معا كشعب واحد، نعبد إلها واحدا، نحيي علما أميركيا واحدا." وأصبحت هذه الكلمات كلازمة في خطاباته أثناء حملته الانتخابية: شعب واحد وإله واحد. وعلى الرغم من أن البعض لا يمكنه تجاوز خطر محتمل على الحرية الدينية يمثله هذا البيان الافتراضي، فعلينا أن نفهم أن هذا هو بالضبط نوع من تنشيط الدين العام الذي يترافق مع تصاعد المشاعر القومية.

وعلاوة على ذلك، يضّمن ترامب هذا التصور في السياسة. إنه يعد بإلغاء ما يسمى تعديل جونسون، والذي اقترحه السيناتور ليندون ب. جونسون وصدر في عام 1954. وكان الغرض من القانون تقييد دعم الكنائس وغيرها من المؤسسات غير الربحية للحملات والسياسيين. في الواقع، قمع جونسون حينها المعارضة السياسية في الكنيسة وفقا لطموحاته السياسية الخاصة. وترامب اليوم على استعداد لرفع هذا التقييد وإطلاق العنان للشعبوية السياسية للكنيسة الإنجيلية.

وهكذا يبدو أن انحسار التعددية الثقافية وصعود الشعبوية القومية يدل على بزوغ فجر عصر ما بعد العلمانية. وعلى الرغم من الاحتجاجات المتفرقة، فإن رئاسة ترامب تؤشر بالعكس على الثقافة الأوسع نطاقا والتي تفتح الآن موسم التصويب السياسي. وبقدر ما أنا قلق، فإنه لا يمكن أن يكون قريبا بما فيه الكفاية.