الدول والأقاليم الحبيسة في القانون الدولي
عاش الإنسان القديم حياة غير مستقرة فوق الهضاب وبين الوديان والجبال، متنقلاً بحثاً عن الماء والأعشاب التي تقتات عليها ماشيته، وظل كذلك دهوراً كثيرة مُعرضاً لأخطار الحيوانات المفترسة، حتى جاء عصر الجفاف وظل يبحث عن الماء حتى اهتدى في كثير من الأماكن، لمجاري مائية مملوءة بالماء على الدوام، فإستقر بجانبها بعد أن عرف الزراعة، ومن هنا بدأت النواة الأولى لما يعرف الآن في القانون الدولي بإسم الدولة، حيث بنى مسكنه من الطين وتكونت القرية والمدينة والأقليم، ثم تجمعت مكونة الدولة تحت حكومة واحدة، وملك واحد، حدث ذلك في الحضارات القديمة كالحضارة المصرية والصينية والبابلية.
الدولة اذاً مجموعة من الأفراد يمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي محدد، ويخضعون لتنظيم سياسي معين، ولها عناصر ضرورية لازمة لقيامها، وهي الأقليم (الأرض )، السكان، الحكومة، والدستور .
وكما أن لكل شخص طبيعي شخصية قانونية، وهي صلاحية الفرد لإكتساب الحقوق، والتحمل بالإلتزامات، فإنه لزاماً أيضاً لقيام الدولة تمتعها بالشخصية القانونية، مما يترتب عليه صلاحيتها لأن تكون أهلاً لإكتساب الحقوق، والتحمل بالإلتزامات، وهي في كل ذلك لها شخصيتها المستقلة عن سكانها، وعن حكامها، مما يعني ثبات تعهداتها الدولية، والتزامها بما عقدته من اتفاقيات، أو أصدرته من قوانين ، ولو تغير شكلها، أو نظامها أو حكامها.
وإذا أردنا التحدث عن أهم الدول قاطبة، تحدثنا بلا ريب عن دولة الإسلام في المدينة وعناصرها، حاكم هو محمد صلى الله عليه وسلم، وسكانها الصحابة الأوائل في الإسلام، وإقليمها البقعة الطاهرة، وأرض الحرتين، المدينة التي أنارت بضيائه صلى الله عليه وسلم، ودستورها القرآن الكريم، فيالها من دولة مباركة، إجتمعت لها كل عناصر العزة والكرامة، الطهر والنقاء.
والإقليم قد يكون عبارة عن قطعة من الأرض لها حدود برية فقط، أو برية وبحرية، أو يكون محاط بالماء سواء كان جزيرة أو شبه جزيرة، وهذه إما حدود طبيعية كجبال وهضاب، أو بحار ومحيطات، أو تكون بشرية (سياسية)، كما لو كانت حدود برية مشتركة مع دولة،أو دول أخرى. يجرنا الحديث هنا لنقطة هامة تتعلق بالدول التي لا تمتلك أية حدود بحرية، فلا تطل على بحار أو محيطات، فيما يعرف دولياً الآن بإسم الدولة الحبيسة، فما هي الدول والأقاليم الحبيسة في القانون الدولي ؟.
مصطلح دولة حبيسة في القانون الدولي، يعني الدولة التي لا تستطيع الوصول اليها عن طريق أي مصدر مائي، فحدودها لا تطل على بحار أو محيطات، وبالتالي قد تكون محاطة بدول أخرى، أو تقع داخل دولة واحدة، وتوجد هذه الدول في قارات أفريقيا ( أكثر القارات ) وبها ستة عشرة دولة هي :.
( بوتسوانا _ سوازيلاند _ مالاوي _ مالي _ بوركينا فاسو _ أوغندا _ زامبيا _ زيمبابوي _ جنوب السودان _ تشاد _ بورندي _ أثيوبيا _ ليسوتو _ جمهورية إفريقيا الوسطى _ النيجر _ رواندا )، وتوجد دول حبيسة أخرى في قارة أوروبا ( أندورا _ النمسا _ بيلاروسيا _ الفاتيكان _ سان مارينو _ سلوفاكيا _ صربيا _ هنغاريا _ ليختنشتاين _ جمهورية التشيك _ مقدونيا _ لكسمبرج _ مولدوفا _ سويسرا )، أما الدول الحبيسة في آسيا فهي ( أفغانستان _ أرمينيا _ أذربيجان _ بوتان _ لاوس _ كازخستان _ قيرغيزستان _ منغوليا _ نيبال _ طاجيكستان _ تركمانستان _ أوزبكستان )، وأخيراً بوليفيا، وباراغواي وتقعا في أمريكا الجنوبية. وبالتالي فإن القارتين الوحيدتين الخاليتين من الدول الحبيسة هما أمريكا الشمالية، واستراليا، مع ملاحظة أن أكبر الدول الحبيسة هي كازخستان، وأصغرها هي الفاتيكان.
والدول الحبيسة ليست نمطاً واحداً، وإنما وكما ذكرنا قد تكون محاطة بأكثر من دولة تفصلها عن أي بحار أو محيطات وتسمى هنا بالدولة المستحاطة، ومن أمثلتها أندورا بين فرنسا وأسبانيا، وبوتان بين الهند والصين، ليختنشتاين بين سويسرا والنمسا، ومولدوفيا بين أوكرانيا ورومانيا، وقد تكون الدولة الحبيسة واقعة بكاملها داخل أراضي دولة أخرى، بمعنى أن تكون محاطة من جميع الجهات بدولة أخرى تفصل بينها وبين أقرب مجرى مائي وهي ما تعرف بالدولة المطوقة، وأمثلتها الفاتيكان وهي مطوقة داخل ايطاليا، ليسوتو الموجودة داخل جنوب أفريقيا، سان مارينو الموجودة أيضاً داخل ايطاليا، ونود تأكيد نقطة هامة وهي أن وضع الدول الحبيسة، لا يعني إطلاقاً إنتقاص من سيادتها، أو تبعيتها لهذه الدول، فهي دول مستقلة ذات كيان منفصل .
هذا فيما يتعلق بالدول، إلا أنه توجد أيضاً أقاليم حبيسة، وهي التابعة لدولة ما، لكنها منفصلة عنها مكانياً بواسطة حدود دولة أو دول أخرى، وتتمتع بحكم ذاتي، والأقاليم كما الدول قد تكون مستحاطة، مثل أقليم نخجوان التابع لأذربيجان ويقع بين تركيا، أرمينيا، ايران، وقد تكون مطوقة مثل اقليم هيرتوج الموجود داخل هولندا رغم تبعيته لبلجيكا.
إلا أن أسوأ هذه الدول حظاً هي الدول مزدوجة الحبس، أي التي تكون بطبيعتها دولة حبيسة، إلا أنها أيضاً تكون محاطة بدولة أو دول حبيسة، ومثالها دولة أوزبكستان فهي دولة حبيسة، محاطة بدول كلها حبيسة هي:. تركمانستان، أفغانستان، طاجيكستان، قيرغيزستان، كازخستان.
فكيف تستطيع الدول الحبيسة التغلب على مشاكلها ؟. في الواقع هذه الدول تلجأ لدول الجوار لإستئجار المواني المملوكة لها، من أجل نقل بضائعها، ويتم تنظيم ذلك عن طريق عقد معاهدات دولية تضمن وصولها الى أقرب محيط أو بحر لها، الا أنها مع ذلك تتعرض لعقبات كثيرة فيما يتعلق بسيادتها، ونموها الإقتصادي، فمثلاً فيما يتعلق بمشكلة نقل البضائع، فهي مضطرة إما الى النقل الجوي مع تكاليفه الباهظة، أو البري بما له من مخاطر نقل البضاعة وتلفها، غير مستطيعة استخدام النقل المائي، وهو أرخص أنواع النقل، كما أنها تتعرض لأخطار كثيرة أيضاً، كإنتظارها في ميناء الدول المحيطة بها عدة أيام حتى يفرغ الميناء، كما يتم إستغلالها مادياً بشكل فادح، والأخطر من ذلك أنه قد تمر هذه الدول بظروف طارئة، كخوضها لحروب، أو قيام ثورات بها، فتضطر لغلق موانيها البحرية مدة كبيرة، ويتعلق بنقل الأشخاص ما يتعلق بنقل البضائع من مشاكل، وذلك اذا ما حدثت كوارث طبيعية، فلا يستطيع السكان الهرب سريعاً، إلا أن نقطة الضوء الوحيدة كما يرى بعض الفقه فيما يتعلق بهذه الدول، أنها تتمتع بحماية أكثر من غيرها من الدول، حيث أن الوصول اليها يكاد يكون مستحيلاً.
الخلاصة: الدولة الحبيسة هي الدولة التي لا تطل على أي بحار أو محيطات، ولا تستطيع السفن الوصول اليها من أي منهما، وإنما تلجأ الى جيرانها لإستخدام موانيها، ويحكم تلك الأمور معاهدات دولية يلتزم بها أطرافها.