إدلب.. حدود المواجهة وسيناريوهات التحدي التركي
"الثمار المُرة" ما سيجنيه رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان جراء سياساته في سوريا، إذ أن جميع المعطيات تُشير إلى أن هناك حرباً وشيكة ستُطيح بخيارات أردوغان في إدلب، خاصة أنه استنفذ جميع الفرص المُقدمة له، والتي جاءت امتداداً لمسار أستانا وتفاهمات سوتشي، بيد أن أردوغان لا يُريد خيراً من خلال التحركات الأخيرة، والتي كانت على قاعدة ضغط الميدان السوري عسكرياً للاستحواذ على مروحة واسعة من المكاسب السياسية؛ يأتي ذلك بعد اكتسابه نقاط قوة في ليبيا، ولكن حتى الآن لم يُدرك أردوغان أن في سوريا قواعد سياسية وعسكرية تختلف جوهراً ومضموناً عن ليبيا، وأيّ مغامرة جديدة في سوريا سيكون لها انعكاسات وأصداء ليس في سوريا وحسب، وإنما ستصل تردداتها حتى ليبيا، لا سيما أن خياراته السياسية والعسكرية في سوريا، تقلصت إلى حدودها الدُنيا.
في خضم صراعات الإرادات في ميدان إدلب، يُدرك أردوغان أن الدولة السورية لديها فائض قوة، الأمر الذي يُمكنها من الذهاب بعيداً نحو عمل عسكري واسع، تُحرر بموجبه إدلب من جُلّ المعادلات الإقليمية والدولية، وتحديداً تلك الناظمة للأجندة التركية في عموم الشمال السوري، كما أن روسيا واستنادً للمفهوم العسكري المُعتمد على ضرورات القضاء على الإرهاب، لن تُفرط بمصالحها الإستراتيجية مع دمشق، بصرف النظر عن مُعطيات العلاقة الروسية التركية، والتي تحكمها عوامل جيواستراتيجية، لا سيما أن موسكو تُدرك أن الهواء الأطلسي هو من يُغذي طموحات أردوغان إقليمياً ودولياً، وعليه فإن معادلة دمشق موسكو تسير وفق إرادة القوة وتوظيف المعطيات لتحقيق الأهداف؛ هذه المعادلة سببت التشويش والاضطراب للعقلية السياسية التي يتعاطى بها أردوغان مع مسار الأحداث في سوريا، الأمر الذي تُرجم تصريحات سياسية لكنها في إطار التهديد والوعيد، مع الاستعانة بحلفائه الأطلسيين، وتوظيف ورقة اللاجئين للضغط سياسياً على أوروبا واستدراج عطفها.
محاولات أردوغان لم تجد صدىً لدى واشنطن وقادة الاتحاد الأوروبي، ومع الفشل بتنفيذ تعهداته في إدلب، سيُسدل الستار على مسلسل مراوغاته، لتكون النتيجة خيارين لا ثالث لهما:
أولاً- الذهاب بعيداً نحو الانزلاق أكثر في المستنقع السوري، ويصبح أمام مواجهة مباشرة مع الجيش السوري، دون حساب فارق الأعباء السياسية والعسكرية التي ستضعه وجهاً لوجه مع حلفاء دمشق.
ثانياً- الانصياع وتنفيذ بنود الاتفاق الذي وقعه مع نظيره الروسي وهو امتداد لاتفاق سوتشي، والقاضي في أحد بنوده بأن يلتزم الجانب التركي وجيشه بالقضاء على الفصائل الإرهابية التي يرعاها والمنتشرة في بعض مدن وبلدات إدلب وريفها وتعمل بغطاء منه.
بين الخيارين ثمة مأزق هندسه أروغان بنفسه، فالأحداث بدأت تأخذ منحىً مختلفاً بطريقة تتعارض وحساباته، فحين أقدم أردوغان على الزج بجنوده وآلياته العسكرية في إدلب ومحيطها، لم يُدرك أنه أمام تحدٍ عسكري بالمقاييس كافة، فمن جهة يحاول تمرير رسائل لروسيا بجديته في تفكيك الجسد الإرهابي في إدلب، مع الأخذ بعين الاعتبار أن نظريته التي تأتي في إطار الإفلات من تعهداته أو التملص منها في إدلب ومحيطها بعد سنوات من المراوغة، لم تعد تلقى آذان صاغية من موسكو، خاصة أن أردوغان سعى من خلال مناوراته للمحافظة على مجموعاته الإرهابية التي رعاها ودربها وسلحها ووظفها في أماكن وأوقات متعددة داخل سوريا وخارجها.
من جهة ثانية، فقد بدأت الفصائل الإرهابية المدعومة تركياً تُصعد ضده، الأمر الذي وصل إلى إقدام المجموعات الإرهابية من مؤيديه على الاشتباك المسلح مع عناصر الجيش التركي، عندما شرعوا في تنفيذ بنود اتفاق موسكو الأخير بشأن تسيير دوريات مشتركة مع الجانب الروسي، وتأمين مسافة أمان على جانبي كل طريق تصل إلى اثني عشر كيلومتراً لضمان عودتهما للعمل بأمان.
المشهد السابق يُتيح لنا رؤية مسار أخر للمشهد في إدلب، فقد بات واضحاً أن أردوغان فقدّ عملياً قدرته على الاستثمار السياسي وكذا العسكري في إدلب، وعلى الرغم من الزج بجنوده في إدلب ومحيطها، إلا أن ذلك وضعه أمام تحدٍ حقيقي يتمحور حول إدراك الفصائل الإرهابية، بأنهم لم يكونوا سوى ورقة تُستثمر في البازار السياسي لـ تركيا سواء في سوريا أو خارجها، وبالتالي بات الطرفين أي أردوغان وأدواته الإرهابية، يتربصان ببعضهما ووصلا إلى نهاية مسرحية تبادل الأدوار والوظائف، ولم تعد المصالح مشتركةً بينهما، بل أضحت متعارضة ولا بد لأحد الطرفين من إزاحة الآخر عن طريقه لضمان استمرار مصالحه، عطفاً على امتعاض روسي جراء "وقاحة" أردوغان في التملص من تعهداته السابقة والحالية مع موسكو.
في خضم ذلك، وفي إطار التوازنات الإقليمية والدولية المرتبطة بالملف السوري، يبدو أن روسيا لم تفلح من خلال التفاهمات السياسية أن تحقق نجاحاً عسكرياً، وتحديداً في ورقة الشمال السوري، لكن في مقابل ذلك، وضمن معادلة النجاح الميداني التي فرضها الجيش السوري، يبدو أن ورقة إدلب بوصفها ورقة ضاغِطة تتم من خلالها هندسة واقع الصراع في سوريا، سيتم سحبُها من التداول الإقليمي والدولي، ولا يمكن التعويل على هذه الورقة تركياً، لأن حجم المخاطر التي تؤطّر حدود المصالح الروسية التركية، سيُجبر أردوغان على تجنب خوض غمار ملف إدلب وجزئياته، فالحقيقة المُرة التي باتت مُغلّفة بواقعٍ سياسي وعسكري فرضته الدولة السورية وجيشها، بات بموجبه أردوغان بين فكيّ كماشّة، وضمن خيارات جُلها مُرّ، فمن جهة بات الجيش السوري قاب قوسين أو أدنى من هَدْمِ أسوار إدلب فوق رؤوس مُرتزقة أردوغان، وتركيا تعلم جيداً أن فصائلها الإرهابية لا تقوى على مواجهة الجيش السوري، خاصة وأن حلفاء دمشق يخوضون غمار فرض الوقائع وكَسْر التحديات في ملف إدلب، ومن جهةٍ ثانية يُدرك أردوغان أن فصول مسرحيته الإرهابية باتت في خواتيهما، خاصة أن هناك مصالح متضاربة بينه وبين أدواته الإرهابية التي أدركت أنها ورقة ستُحرق قريباً.
في الُمحصلة، الواضح ان بوتين يُجيد دغدغة طموحات أردوغان، ووضعها في قوالب تتناسب وطبيعة الظروف السياسية والعسكرية المُتعلقة بالشأن السوري، فالتطورات التي فرضها الجيش السوري وحلفاؤه في إدلب، كفيلة بإدخال أردوغان في غيبوبة سياسية، ليكون الإنعاش الروسي بمثابة خارطة طريق لا يحيد عنها أردوغان، لكن لا ضير بين الفينة والأخرى، من تفعيل خيار القوة العسكرية بُغية التوصل لحلول سياسية في سوريا، خاصة أن جُملة التعقيدات تؤكد بأن التجاذبات التي يُراد منها تأخير الحلول السورية، إنما تأتي من واشنطن وبتحريض منها، لكن القدرة الاستراتيجية الروسية في احتواء هواجس أردوغان، وقدوة الدولة السورية وجيشها بتفعيل أي خيار سياسي عسكري، يبقى كفيلاً بفرض الوقائع والمُنجزات، وصولا لتحرير الجغرافية السورية من الإرهاب التركي والأمريكي، وفق المعادلات السورية.