من القوقاز إلى المحيط الهندي ثلاثية ما بعد الدولار....!
يواصل المفكرون والباحثون والسياسيون والديبلوماسيون والإعلاميون نقاشاتهم وتحليلاتهم، حول طبيعة العلاقات القائمة بين كل من جمهورية الصين الشعبية من جهة وروسيا من جهة أخرى وحول طبيعة العلاقات بين كل من الصين وروسيا وإيران، الى جانب التركيز الإعلامي والاستخباري المتزايد، حول طبيعة العلاقات الروسية الإيرانية والعلاقات السورية الإيرانية.
وبغضّ النظر عن وجهات النظر المختلفة، الصادرة عن العديد من أصحاب الرأي، فإنّ هنالك أسباباً موضوعية، تحكم تلك العلاقات المذكورة أعلاه، تفرضها طبيعة الصراع بين القوى العظمى في العالم، وليست محكومة بمزاجات او نزوات شخصية او ما شابة ذلك.
إذ إنّ الناظم الموضوعي الثابت لهذه العلاقات، يتمثل في المصالح القوميّة العليا لكلّ من البلدان، التي تدور حول علاقاتها كل هذه النقاشات. وهي مصالح محكومة بطبيعة العلاقات السائدة، بين كلّ من هذه الدول والولايات المتحدة والدول الأوروبية، في إطار الصراع الدولي الشامل وسعي كلّ طرف من الاطراف ان تكون له اليد العليا في العالم ليتصدر قيادته، بناءً على موازين القوى التي يفرزها هذا الصراع.
وبما ان جوهر هذا الصراع يتمحور حول انهاء السيطرة الأميركية الاحادية القطبية على العالم فإن كل القوى التي تعارض هذه الهيمنة الأميركية لا بد ان تلتقي مصالحها عند نقطة مشتركة، تجعل التعاون بينها اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، أمراً حتمياً لا غنى عنه.
إن نظرة مجردة، وغير خاضعة للأهواء الشخصية، للعلاقات التي تربط الدول التي تعمل على التصدي للهيمنة الأميركية، وهي بشكل اساسي وقوي كلٌّ من الصين الشعبية وروسيا وإيران، يضاف اليها العديد من الدول الإقليمية المهمة في آسيا، وكذلك الأمر بالنسبة للجزائر وجنوب افريقيا، في القارة الأفريقية، كما المكسيك وفنزويلا وقريباً البرازيل، بعد سقوط حكم بولسونارو، نقول إن نظرة الى هذه العلاقات تجعلنا نصل بالضرورة الى النتائج التالية:
أولاً: إن الاستراتيجية التي تنطلق منها هذه الدول، في مواجهتها لهيمنة الولايات المتحدة، هي استراتيجية موحدة او مشتركة او حتى يمكن القول إنها واحدةً، رغم التمايز في سياساتها، والذي يلاحظ في معالجتها لبعض قضايا العالم، أي لقضايا دولية، خارج إطار علاقة كل واحدة من هذه الدول مع الدولة او الأخرى.
ثانياً: وهذا يعني أن الدول الثلاث أعلاه هي دول متحالفة حول الاهداف، اي حول برنامج عمل محدّد ومتفق عليه، على الرغم من عدم وجود حلف يجمعها، وعدم ارتقاء المعاهدات الدولية، التي تجمع هذه الدول مع دول أخرى في العالم، كمعاهدة شنغهاي وغيرها، وهو الامر الذي يضفي مرونة كبيرة، على علاقات هذه الدول البينية وعلاقاتها مع دول أخرى. وهنا يحضرنا ذكر العلاقات، التي تربط روسيا بسورية وروسيا بـ”إسرائيل”، وكذلك علاقات الصين مع كل من سورية و”إسرائيل”، على الرغم من أن الآفاق الأوسع، لتطوير علاقات الصين وروسيا في “الشرق الاوسط “، توجد في البلدان العربية وليس في “إسرائيل”، وعليه فإن هذه العلاقات المتميّزة، بين القوتين العظميين والكيان الصهيوني، ليست الا علاقات مؤقتة سوف تتلاشى تزامناً مع تلاشي كيان الاحتلال.
ثالثاً: من هنا فانّ هذه الدول، ومنذ بداية تطوير العلاقات الروسية الصينية بشكل حيوي، بعد انتهاء الحرب الباردة، وبداية الحروب العسكرية الأميركية، في الفضاء الاستراتيجيّ للدول الثلاث، والتي بدأت بالحرب الأميركية على العراق سنة 1991، ثم احتلال افغانستان سنة 2001 واحتلال الجيوش الأميركية والبريطانية للعراق سنة 2003، وما تبعها من حرب أميركية اسرائيلية، ضد الحليف الموضوعي لتلك الدول، أي حزب الله، سنة 2006، وما تلاه من محاولة أميركية إسرائيلية لزعزعة الوضع على حدود روسيا الجنوبية، سنة 2008 في جورجيا، نقول إن الدول الثلاث وبالنظر الى ما اوردناه، وغير ذلك من الأسباب، فقد قررت اتباع استراتيجية تجميع وتوحيد القوى، المعادية للهيمنة الأميركية كأولوية دولية، وزجها موحدة في ميدان الصراع الدولي، بهدف الحدّ من السيطرة الأميركية شيئاً فشيئاً وإرغامها على تقليص انتشارها العسكري في العالم.
رابعاً: أن هذه السياسة، التي تجلت في التعاون الاقتصادي الواسع النطاق، بين روسيا والصين، خاصة في مجال الطاقة، وكذلك التعاون العسكري التقني بين الدولتين، الذي يساعد في مراكمة القوة الاقتصادية والعسكرية الضرورية، لخلق توازن دولي جديد، وكذلك الأمر في ما يخص العلاقات الروسية الإيرانية، التي تشمل العديد من القطاعات الهامة، والتي ستشهد تطورات متلاحقة وتعميقاً عاماً لها، بعد رفع حظر بيع وشراء السلاح المفروض على إيران وفشل الولايات المتحدة في تمديده. وكذلك الأمر بالنسبة للعلاقات الصينية الإيرانية التي شهدت تحسنًا ونمواً مضطرداً، رغم الحصار المفروض على إيران أميركياً، وهو تعاون سيفضي قريباً جداً الى توقيع اتفاقيات تعاون استراتيجي، سيكون له ما بعده (التعاون).
خامساً: كما لا بد من التأكيد على أن أحد أهم مجالات تطبيق هذه الثلاثية الأبعاد، الصينية الروسية الإيرانية، هو مجال الادوار التي لعبتها الدول الثلاث، سياسياً وعسكرياً، ليس فقط في حماية الدولة السورية، وبالتالي المنطقة العربية كلها، من التمزيق الشامل، وإنما أسّست لحضور عسكري استراتيجي روسي في شرق المتوسط يشكل خط دفاع أول عن بكين وموسكو ولا يستبعد أن يكون له دور عام في حماية مصالح الدول الثلاث في المنطقة والعالم، خاصة بالنظر الى مشروع طريق واحد حزام واحد الصيني العملاق، الذي لن تستطيع الولايات المتحدة منع تنفيذه مهما قامت بأعمال تفجير هنا وهناك، سواءً في البر او في البحر.
كما لا بدّ ايضاً من الاضاءة على أهمية التعاون السوري العراقي، مع كلّ من روسيا والصين وإيران، لما لذلك من أهمية على مشاريع إعادة الإعمار في العراق وسورية، وكذلك الأمر في قطاع خطوط نقل الغاز، التي لا بدّ أن تكون السواحل والموانئ السورية واللبنانية، رغم تفجير ميناء بيروت مرتين خلال شهر واحد تقريباً، هي محطات ضخ الغاز إلى اوروبا وليس ميناء حيفا المحتلّ، على الرغم من انّ شركة صينية هي التي تدير الميناء. اذ انّ كلّ مشاريع الغاز التي تتحدّث عنها الإدارة الأميركية والاحتلال الإسرائيلي هي مشاريع هدامة، تهدف قبل كل شيء الى إلحاق أضرار استراتيجية بصادرات الغاز الروسية، وبالتالي بالمداخيل المالية للدولة الروسية، خدمة لمشاريع واشنطن، الهادفة لإخضاع روسيا والصين لهيمنتها، سواءً من خلال الضغط العسكريّ أو الضغوط المالية والاقتصادية، عبر العقوبات والادوات الأخرى.
سادساً: وبالاضافة الى ذلك فانّ من الجدير بالذكر انّ تعاون هذه الدول الثلاث، الصين وروسيا وإيران، في كلّ المجالات، وعلى رأسها المجال العسكري، يواصل التنامي ومراكمة القوة اللازمة لمواجهة مؤامرات وتحرّشات الولايات المتحدة وحلف الناتو، سواء ضدّ الصين، في المحيطين الهندي والهادئ وبحار الصين واليابان والفلبين المختلفة، او ضدّ إيران، في بحر العرب ومنطقة الخليج وغرب المحيط الهندي، او ضدّ روسيا، في المحيط الهادئ والبحر الأسود وبحر البلطيق.
حيث قامت الدول الثلاث أعلاه بالردّ على تلك التحرّشات والاستفزازات الأميركية بإجراء تدريبات عسكرية بحرية مشتركة، في بحر العرب وغرب المحيط الهندي، استمرت لمدة ثلاثة ايام، من 27/12 وحتى 30/12/2019. وهي مناورات حملت العديد من الرسائل الهامة، لمن يعنيه الأمر، واظهرت ان إيران أصبحت قادرة على تنفيذ مهمات بحرية خارج محيطها الجغرافي، اذ انّ منطقة المناورات شملت شمال المحيط الهندي ايضاً، البعيد جغرافياً عن إيران، الأمر الذي يؤكد (القدرة الإيرانية) في تحدي للولايات المتحدة وإرسال ناقلات النفط الإيرانية الى فنزويلا، التي تبعد آلاف الكيلومترات عن السواحل الإيرانية مثال صارخ على ذلك.
علماً أنّ نجاح هذه الخطوة يُعتبر نجاحاً للدول الثلاث، خاصة اذا ما نظرنا الية كعملية مكملة للجسرين الجوي الصيني والروسي، اللذين أقيما لتقديم المساعدات لفنزويلا بداية العام الحالي، الى جانب التحليق القتالي الذي نفذته القاذفات الروسية العملاقة، من طراز توبوليڤ 160، في أجواء البحر الكاريبي والعديد من دول هذا البحر، أواسط شهر 12/2019، وما حملته تلك التحليقات الاستراتيجية من رسائل واضحة لواشنطن.
سابعاً: بالنظر الى استمرار التآمر والعبث الأميركي الغربي بأمن الصين، في بحار الصين والمحيط الهادئ وشرق المحيط الهندي (منطقة مضيق مالَقا) وكذلك العبث بالأمن الإيراني وامن منطقة الخليج بأكملها، من خلال مواصلة الحرب على اليمن ومحاولات إقامة حلف امني عسكري خليجي إسرائيلي، موجّه ضدّ إيران، حسب ما اعلن وزير الخارجية الأميركي، وما تقوم به أسلحة الجو للولايات المتحدة وجميع دول حلف الناتو، من محاولات انتهاك الأجواء الروسية، سواء على الجبهة الجنوبية، اي في منطقة البحر الأسود، او في بحر البلطيق وبحر بارينتس وشمال المحيط الهادئ، عند الحدود الروسية الجنوبية مع الصين واليابان، نقول إنه وبالنظر الى كلّ هذه الاستفزازات، مضاف اليها استمرار واشنطن وبروكسل في تعزيز حشود الناتو على حدود روسيا الشمالية الغربية، منطقة لينينغراد التي أصبحت في مرمى مدفعية قوات الناتو، وكذلك المحاولات اليائسة، التي تقوم بها واشنطن وبروكسل، لإسقاط الدولة في روسيا البيضاء والسيطرة على أراضيها رفعاً لمستوى التهديد الغربي للدولة الروسية، فإن كلاً من: روسيا والصين وإيران، الى جانب روسيا البيضاء وباكستان ودول أخرى عديدة، قرّرت اجراء تدريبات عسكرية مشتركة (تحت عنوان القوقاز 2020)، في جنوب غرب روسيا، تستمرّ من 21 وحتى 26 من شهر ايلول الحالي، وذلك في إطار الاستعدادات المشتركة لمواجهة أية اخطار عدوانية تواجه الدول المشاركة في التدريب.
ثامناً: وفي الختام لا بدّ من الإشارة الى انّ مراكمة القدرات، الاقتصادية والسياسية والعسكرية، لمواجهة العدوان الأميركي، قد جاءت نتيجة لثلاثين لقاء، بين الرئيسين الصيني والروسي، والعديد من اللقاءات بين الرئيسين الروسي والإيراني، كما أنها تشكل جزءاً من الردّ على الاستفزازات الجوية الأميركية الأوروبية، في أجواء البحر الاسود بشكل خاص، حيث اضطرت المقاتلات الروسية للتصدي لطائرات استطلاع وقاذفات استراتيجية أميركية أكثر من ثلاثين مرة، خلال شهر آب الماضي.
وهو الأمر الذي جعل إيران ايضاً تنفذ تمريناً عسكرياً بحرياً
اطلقت علية اسم: ذو الفقار، بمساندة سلاح الجو والدفاع الجوي وقوات الانزال البحري وسلاح الصواريخ، في منطقة تمتد من بحر العرب وخليج هرمز وحتى غرب المحيط الهندي وتبلغ مساحتها مليوني كيلومتر مربع مستمرة حتى يومنا هذا، حيث تصدّت خلالها الدفاعات الجوية الإيرانية لثلاث طائرات استطلاع أميركية، الأولى من طراز P – 8، أما الثانية فهي مسيّرة من طراز غلوبال هوك MQ – 9، بينما الثالثة مسيّرة ايضاً ومن طراز RQ – 4، حيث كانت هذه الطائرات قد دخلت منطقة الاستطلاع الدفاعي الإيراني، مما اضطر طائرة إيرانية من طراز كرار أن تطلق طلقات تحذيرية باتجاه الطائرات الأميركية التي اضطرت الى مغادرة المنطقة.
وغنيّ عن القول طبعاً انّ في ذلك رسالة واضحة من إيران مفادها، انّ امن المنطقة الإقليمي، الممتدّ من سواحل إيران الجنوبية وبحر العرب وصولاً الى خط بحر قزوين/ البحر الأسود، هي من مسؤوليات دول المنطقة، ولا علاقة لا للولايات المتحدة ولا لدول الناتو بهذا الموضوع، على الرغم من انتشار قواعدها العسكرية على السواحل الغربية للبحر الاسود، في كل من بلغاريا ورومانيا وبعض الوجود العسكري في اوكرانيا.
اذن فهو تعاون ميداني مشترك، ذلك القائم بين الصين وروسيا وإيران، على الرغم من عدم وجود قاعدة عقائدية مشتركة، وهو ما يجعله تعاوناً يرتقي الى مستوى الحلف من دون ان يكون حلفاً ملزماً لكلّ اعضائه بكلّ السياسات والتفاصيل بالضرورة، كما هو حال حلف الناتو حالياً وحلف وارسو سابقاً، وهو الأمر الذي يمكن اعتباره تجديداً في العلاقات الدبلوماسية الدولية، ولكنه يتطابق تماماً مع احكام القانون الدولي، الذي ينظم العلاقات بين الدول.
وهذا ما جعل الكاتب الأميركي، دووغ باندو (Duog Bandow) ينشر مقالاً، في مجلة ذي ناشيونال انتريست الأميركية، يوم 9/9/2020، تحت عنوان: لماذا يجب على أميركا الخوف من هذا الحلف؟
صحيح أن للخوف الأميركي هذا ما يبرره حالياً، لكن الصحيح ايضاً أن لا مبرر له، اذا ما اقتنعت الولايات المتحدة بان التطور الاقتصادي الصيني لن يوقفه لا الخوف الأميركي ولا المخططات العسكرية العدوانية للبنتاغون، وان الطريقة الوحيدة لقتل الخوف الأميركي، هي الرضوخ لمبدأ التعاون البناء مع الصين وروسيا وإيران إذا ما ارادت اثبات حسن نيتها في العلاقات الدولية، والاقتداء بنموذج هذه الدول في التطوير العلمي والتكنولوجي، اذ ان الصين هي الدولة الاولى في ألعالم من ناحية الاستثمار في البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، وهي ايضاً الدولة التي يتخرج من جامعاتها سبعة ملايين مهندس، في مختلف الاختصاصات الهندسيّة بما فيها هندسة الكمبيوتر، وما يعنيه ذلك من اثراء لقدرات الدولة، على مختلف الصعد. وهذا ما ينطبق على كل من روسيا وإيران تماماً، ما يجعل المواجهة الاستراتيجية الدولية محسومة النتائج، لصالح التجمع المعادي للهيمنة الأميركيه، ولا مجال لإعادة عقارب الساعة الى الوراء، ولن تنفع اوهام ترامب، التي اعلن عنها يوم أمس، قائلاً ان لديه صواريخ لا يمتلك أحد مثلها…!
فليست بالصواريخ وحدها تعيش الأمم.
فهذا القرن هو قرن الحروب البيولوجيّة وعليك مواجهة الكورونا والقادم من الأوبئة وتنقذ الشعب الأميركي من صواريخك العبثية، قبل أن تتباهى بصواريخ لا وجود لها.
عالم جيوش اليانكي والكاوبوي يتقهقر، عالم ما بعد الدولار يتقدّم وينهض.
بعدنا طيبين قولوا الله…