لبنان... تنظيم العلاقة مع الغرب من مدخل الشرق !

30.07.2020

لم يمر على لبنان في تاريخه أن كان على هذه الوضعية الهشّة . انهياره يشبه في الشكل انهيار الاتحاد السوفياتي. تفكُكْ الاتحاد هناك يقابله تفكُكْ الطوائف هنا. سقوط الروبل هناك يماثله سقوط الليرة هنا. النخبة الفاسدة هناك لها نموذج صارخ هنا . (البيروسترويكيون) هناك ، نسختهم حاضرة بقوة هنا. كل التكتيكات "النضالية" لجعل البلد "ألف ليلة وليلة" من الخراب والتبعية كانت مرئية وواضحة كعين الشمس. الطبقة الطائفية تعمل بانتظام منذ الطائف بمزيد من "الحرية والسيادة والاستقلال" لئلا يتم إنقاذ الدولة . الطبقة هذه قدّمت للشعب تبريراً كاذباً  عن "نشويات" الأزمة وتعقّدها وتضخّمها ، في وقت ارتمت بكل ثقلها في يمّ التحاصص والتناتش، والنتيجة هي الفشل في توفير الحد الأدنى من الحقوق والرفاه والأمان للمواطنين.

متاهة من العبث والمعاناة والفساد العميق تحكي سردية روّاد الطائفية الذين حبكوا ألغاز دولة "بلا شرف" كما يقول عنها كمال جنبلاط . غياب الشروط التقليدية لوظائف السلطة التي حكمت منذ الاستقلال وحتى اللحظة المتعلقة بتقديم الخدمات الرعائية، تثبيت الهوية والانتماء، إدارة الموارد، بناء التفاهمات بين القوى المحلية المتنافسة ، شكّلت إطاراً

كافياً لمواطن بائس بلا كرامة، ووطن رثّ بلا هوية، وسياسة تعيد إنتاج كل شروط النزاع الأهلي . 

ولم يكن مقطع 2020 -1990  مقطوعاً عما قبله . "أهمية احتفاظ البريطانيين بحقهم في قصف الزنوج" كما قال لويد جورج مرةً، لها مَن طبّقها ويطبقّها على "الزنوج اللبنانيين" أي "المحرومون"  كما هو وصفُ الإمام موسى الصدر، أمّا القسم الشيعي منهم  فهم " خميرة العجين المتألّف من كل محروم". مَن حَكَمَ "باسم الشعب والقانون" منذ نشأة الكيان أتقن تسويغ الهدر والزبائنية والفقر والتسوّل وتطوير التخلّف كابراً عن كابر. واليوم يسؤوه أن يأتي "سيد"  يحمل همّ تكوين المستقبل والتأسيس لمدى اقتصادي واجتماعي وسياسي يستهدف خير الناس من جهة ويوقف استعمار الدولة واستغلالها من جهة أخرى ! . 

يقول المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي:" "لا يوجد شيء اسمه بلد فقير يوجد فقط نظام فاشل في إدارة موارد البلاد". فنحن لسنا شعباً فقيراً ليتسوّل المال ويطلب التبرعات والهبات، ولسنا عديمي الموارد الكافية لنقف طوابير على محطات البنزين والأفران وأبواب المساجد والكنائس؟ وإنما شعب غير مهم لأولئك الذين يشغلون كراسي السلطة المحليين العابثين بمقدرات الدولة بالتحالف والتضامن مع ساكني عروش الهيمنة في العالم  .  وقد يكون الإطار التفسيري للحالة اللبنانية الراهنة مركوزاً بما جاء في كلمات المثقف الأمريكي المتشدد "إفرينج كريستول "Irnring Kristol "الشعوب غير المهمة مثلها مثل الناس غير المهمّة. يمكنها أن تتوهم بسرعة أنها مهمّة". الأمر الذي يجب نزعه سريعاً من عقولهم التقليدية ... في الحقيقة إنّ أيام دبلوماسية سفينة الحرب لن تنتهي أبداً ". وها نحن تماماً نتعرض كبلد وشعب للضرب من قبل أدوات محلية أو عبر الحرب الصناعية الخارجية كما فعلت إسرائيل بنا في العام 2006 وما قبلها وتفعله اليوم أمريكا عبر الخنق والحصار والعقوبات.

المطلوب إذاً أن لا يتحوّل شعبنا إلى شعب مهمّ وأن يسير على قاعدة " قوة لبنان في ضعفه" منهوباً من الداخل ومنتهكاً من الخارج. وأي كسر لهذه القاعدة التاريخية سيقابل بدفع البلد إلى البؤس والتقسيم .

ما ساقه الأمين العام لحزب الله في خطابيه الأخيرين فيما يتعلق بتعزيز البعد الإنتاجي وتفعيل القطاعين الزراعي والصناعي والذي لاقى استهزاء ثقافياً طبقياً من قبل الذين لا يرون دوراً  وهوية للبنان إلا بالريع والتبعية والاستهلاكية لمنتجات الغرب، كان هدفه كسر مجموعة العقائد الاقتصادية التي قدّسها العقل البرجوازي وجعلها أساساً مؤسساً لكينونة لبنان ومصيره. مستوى ما لا يمكن التفكير به أو استنطاق ما كان مسكوتاً عنه اقتصادياً، بسبب محدودية العقل اللبناني ذاته أو انغلاقه في طور معين من أطوار الليبرالية والرأسمالية الغربية، هو  ما أراد الأمين العام من وراء طرحه أن يفكك عبره المرحلة السابقة من الأفكار والسياسات الاقتصادية التي اعتمدت على مفاهيم اكتسبت قوة إلزامية تخييلية في ذهن وسلوك اللبنانيين حتى تمّ تقديس ما ليس بمقدس (خيار الغرب) وتحريم ما ليس بمحرم( خيار الشرق). نفس العقبات الذهنية والعراقيل المعرفية في السياسة نجدها أيضاً في الاقتصاد، لإنّ الإصلاح "لعب بالنار"  كما رأى يوماً الرئيس المؤسس لحزب الكتائب بيار الجميل . والمسّ بقواعد الاقتصاد تماماً كالمسّ بقواعد السياسة وربما يستدعي ذلك "العنف" . فقد برر الرئيس أمين الجميل، إبان الحرب الأهلية، لجوء الكتائب إلى العنف  "..لإنقاذ المؤسسات من أي تغيير " بعد أن خرجت قوى لبنانية، اليساريّة منها تحديداً، مطالبة بإصلاح النظام السياسي . فإعادة التفكير جذرياً بمسألة الأسس والأصول التي قام عليها الاقتصاد اللبناني والعمل على تفكيك المبادىء والطرق التي اعُتمدت لعشرات السنين دونها نضال مرير !

الإحتكاريون الكبار ووكلاء الرأسمالية المتوحشة المحليين سوف يستمرون في ترويج عقائدهم الاقتصادية وكأنها وصايا "إلهية" تفرض نفسها بدون أي سؤال وتُتلقى دون أي نقاش. وهم وجدوا في مهندس النظام الحر "ميشال شيحا" ضآلتهم عندما قرر لهم أنّ لبنان يجب أن يكون بلد تصريف وتسويق لصناعات الدول الكبرى، وأنّ لبنان لا مشروعية ولا صلاحية اقتصادية له إلا بوظيفته كمصْرَفٍ ومعبر !

مع الانهيار الكبير خرج الأمين العام ليشرح إذا ً،إمكانية انبثاق ذات لبنانية جديدة، عبر خيار الشرق من دون أن يقفل باب الغرب كليّاً.  فهو يعلم أنّه لا يستطيع أن ينجو من ثقل "التاريخية الاقتصادية" ومجموعة الإكراهات التي تشرط منشأً للخروج من الأزمة عبر صندوق النقد الدولي.  لكن المشككين كانوا كثر.  فجادلوا في خيار "السيد" من أنّ إمكانية "الشرق" ليست مؤكدة بشكل يقيني ومن مساره الطويل ومن جداوه في إنجاز الحل. لا شك أنّ هؤلاء ومعهم حاكم مصرف لبنان ومجموعة المصارف ونخبة الخبراء الاقتصاديين الذين يدورون في فلكهم يهدفون من تشكيكهم بخيار الشرق أو التشويش على الأمين العام لحزب الله في بدائله، إلى هيمنة نموذج واحد للحل مشفوعاً بشحنة أيديولوجية تعتبر لبنان "سويسرا الشرق" أو بشحنة دينية تعتبر لبنان " الحد الشرقي للمسيحية الغربية". لقد انزلق النقاش إلى مستوى "قيمنا الغربية" المهدَّدَة من قبل "قيم دول لا تشبه قيمنا وثقافتنا. وهم إذ يفعلون ذلك يمارسون إقصاء واستبعاداً لحضارات وثقافات ربطاً بموقف سياسي يمثل رد فعل لاعقلاني أكثر مما يمثل الفعل الاستكشافي الانفتاحي الذي لطالما تغنى به هؤلاء في فعالياتهم الثقافية ومهرجاناتهم التي يقيمونها في فصل الصيف في سياق تركيبة لبنان المزاوج بين الشرق والغرب. إنّ ممارسة ضغوط أيديولوجية ودينية لاتهام حزب الله بسعيه لتغيير هوية لبنان الثقافية، فرضت نفسها بقوة في الأيام الماضية على تصورات قسم من الجمهور ومخياله السياسي والاجتماعي، مع أنّ الحزب لم يقصد بخيار الشرق أكثر من فتح أبواب اقتصادية جديدة بعدما سُدت عمداً الأبواب القديمة بهدف دفع الحزب إلى الخضوع وتقديم التنازلات وتغيير سلوكه المقاوم ، وكذلك دفع الحكومة لتليين تصلّبها بشأن ترسيم الحدود البرية والبحرية وتوسيع انتشار قوات الطوارىء الدولية لتصل إلى حدود لبنان الشرقية والشمالية وتوطين الفلسطينيين بما يتوافق مع خطة صفقة القرن . مما لا شك فيه أنّ خطابي الأمين العام  قد حفّزا ردوداً تعميمية تعسفية أقامت تضادّاً بين ثقافة حزب الله والغرب. هكذا، بشكل كلي وفلسفي، وبتلاعب واضح يُتخذ حجةً لرفض أي بديل اقتصادي من جهة الشرق. والنتيجة لا خلاص خارج الغرب ولا نماذج ووصفات اقتصادية ومصرفية تستطيع تقديم الحلول للأزمة اللبنانية بعيداً عن النسخة التي تقدمها المؤسسات الدولية المهيمَن عليها من قبل الإدارة الأمريكية. 

لقد عاش اللبنانيون على اعتقاد مسيّر بأنّ نظامهم الاقتصادي الحر بجناحيه الأساسيين، قطاع المصارف و قطاع الخدمات هو المهد الحقيقي للازدهار في كل الظروف ، وأتاحت أهوال الحرب الأهلية لتعطي قوة لهذه الفرضية التي تُظهر توجهاً مثالياً على قدرة هذا النظام على الصمود والتكيّف مع التطورات والضغوط الداخلية والخارجية. ووقع جميع اللبنانيين تحت أسر هذا الوهم الكبير إلى أن وقعت الكارثة التي تطلّبت من الأمين العام لحزب الله طرح أسس اقتصادية واقعية تُظهر الذهنية الاستراتيجية لمجتمع يسعى ليتشكل من جديد ضمن مسيرته التاريخية المليئة بالتحديات والتي تستند إلى نية وإرادة لإثبات حضوره الاقتصادي كما أثبت حضوره العسكري في مواجهة العدو الإسرائيلي والتكفيري . فشعار "سنكون حيث يجب أن نكون "قادر على إنتاج مفاهيم وأدوات ومجالات جديدة وتجاوز العراقيل المحبِطة والمثبِّطة للهمم ، ففي الوقت الذي تعدّ فيه جغرافية دولة ما عاملاً ثابتاً ، يعد العامل الاقتصادي متغيّراً ديناميكياً يجب تطويعه حسب متغيرات موازين القوى الإقليمية والدولية ، وليتقاطع مع عوامل أخرى ترتكز على التأثير المتبادل للدول في خلق ساحات جيو اقتصادية جديدة. إنّ اللبنانيين أمام فرصة تاريخية لتحويل الانهيارات الداخلية والعقوبات الأمريكية إلى جسر عبور نحو الشرق .، ولا يجب أن تشكل العوامل الجغرافية والتاريخية والثقافية للبنان عنصراً راكداً  في عملية تجاوز الوضعية الراهنة بل لا بدّ من استخدامها كورقة تزيد من قوة لبنان في فرض شروطه وتعيد تنظيم العلاقات مع الغرب على أساس البدائل المتوفرة من الشرق.