السوفييت عائدون بقوة... من دون أيديولوجيا!!
يَجنحُ الدور الروسي الى التوسّع التدريجي في الشرق الأوسط مستفيداً من تفوقه في ميادين سورية على حساب تراجع النفوذ الأميركي فتراه يخترق البلدان من بوابة الاقتصاد وبيع السلاح والسياحة آملاً تحقيق تحالفات سياسية وازنة معها والهدف الروسي واحد لا يتغيّر: الدفاع عن تطور روسيا الجديد بعد خسارة دورها الناتج عن انهيار الاتحاد السوفياتي في 1989.
ومنذ ذلك الحين يلجم الأميركيون أي محاولة روسية للعودة الى المساهمة في إنتاج القرار الدولي.
فكبحوها بإثارة الخلافات الداخلية فيها 1990 2010 ، كما سيطرت تياراتها المؤمنة بعالمية الدور الروسي بزعامة الرئيس الحالي بوتين ورسمت واشنطن سياسة وحيدة: منع الروس من التموضع خارج كيانهم السياسي محاولين تطويقهم في البلقان وأوروبا الشرقية ومنعهم من العودة الى البحار الدافئة والاستيطان فيها.
لكن النتائج خالفت توقعات البيت الابيض فالعودة الروسية تمت بسرعة بواسطة ذلك الانتصار الكاسح في غرب سورية وإعادة سيادة دولتها الى معظم اراضيها، بموازاة تضعضع العلاقات الأميركية التركية وخسارة الارهاب وتحول روسيا دولة لها القواعد الاهم في البحر الابيض المتوسط الذي يشكل قلب العالم الفعلي.
هذا الانتصار المتواكب مع سياسات «بوتينية» متوازنة حاربت المحور الأميركي الاسرائيلي الخليجي المتغطي بإرهاب أممي في سورية في مقابل إصرار في الوقت نفسه على علاقات سياسية متوازنة مع الرياض وتل أبيب وانقرة، مطلقين نظرية تسمح بالقتال بين الدول الكبرى والمتورطة في ميادين دول أخرى مقابل الاستمرار بالعلاقات الدبلوماسية العادية.
إن أهمية الدور الروسي في سورية انه لا يحمل ابعاداً ايديولوجية كدور سلفه السوفياتي الذي كان متهماً بدعم الدول الاشتراكية والشيوعية، ما أباح للسعودية «تكفيره» بدعم من «المؤمنين الأميركيين»، ولما فقد المعادون لروسيا هذه التهمة الإلحادية ذهبوا الى اتهامها بدعم «الإرهاب الإيراني والسوري وحزب الله»، إلا أنهم لم يتمكنوا من لجم اندفاعها لأنها سبقتهم الى تأسيس تحالفات تاريخية مع الصين وركزت تحت مفهوم الحاجة المبتادلة تعاوناً عميقاً مع إيران لان الطرفين مستهدفان من السياسة الأميركية التي تصرّ على تغيير الجمهورية الإسلامية في إيران واعادة روسيا الى سجن مرحلة يلتسين.
وهكذا تموضعت موسكو على رباعية روسيا الصين وإيران وسورية. وهذه قوى ليست عادية زوّدت الروس بإمكانية الانطلاق نحو الفضاء السوفياتي السابق، إنما من دون أيديولوجيا ومع الكثير من التحالفات الاقتصادية بأفق سياسي واعد.
الأمر الذي يمهّد لولادة جيوبوليتيك روسي لا يرمي الى الاستغلال الاقتصادي والنهب والسرقة كالجيوبوليتيك الأميركي الذي يجسده الرئيس الأميركي ترامب بكل جشعه الى السطو الاقتصادي العام.
ولأن بوتين يعرف ان عصر الايديولوجيا ولّى الى غير رجعة، يتبنى استراتيجية الجمع بين اهتمامين: تلبية حاجات الاقتصاد وبناء أحلاف سياسية داعمة لها، على اساس المصالح المتبادلة للمتحالفين. وهذه تبني توازناً مقبولاً بين البائع والشاري وسط أجواء سياسية محترمة.
لذلك دفع التحالف السوري الإيراني الروسي الإيراني الى فتح أبواب المنطقة امام موسكو المتحيّنة لمثل هذه الفرص التي لا تتكرر واستفادت من الخلاف التركي الأميركي الناشب بسبب رفض واشنطن أي دور اقليمي تركي فتعاقدت مع تركيا البلد الاستراتيجي الاهم في الشرق الاوسط وربطتها بمشاريع أنابيب لتوريد غاز عبر البحر الاسود فتركيا الى اوروبا مع صفقات اخرى بقيمة تزيد عن مئة مليار دولار سنوياً. الأمر الذي أنتج تقارباً سياسياً مقبولاً بين سياسات البلدين في الميدان السوري.
يضاف هذا الإنجاز الى اتفاقات اقتصادية مع إيران لا تقل أهمية، لأن موسكو تعرف ان مدخلها الى الخط العراقي الإيراني يبدأ من طهران وقد يصل الى اليمن في مراحل لاحقة.
ضمن هذه المناخات استقبلت موسكو الرئيس المصري عبد الفتاح السياسي المقبل إليها بعد انسداد الافق الاقتصادي في بلاده، فلا المعونات الخليجية تدفقت ولا النصائح الأميركية تسدّ رمق الجياع.
وإثيوبيا تواصل بناء سد النهضة على النيل والذي قد يؤدي الى ضرب زراعات مليوني فلاح مصري دفعة واحدة وسط تأييد سعودي اسرائيلي أميركي لإثيوبيا على اندماجها في إطار السياسات السعودية الأميركية مع جيرانها في القرن الأفريقي.
هذا الانسداد المصري، على الرغم من ان السيسي اعطى الأميركيين والسعودية كل ما طلبوه ممارساً ضغطاً على غزة لتنصاع لصفقة القرن ومؤدياً سياسات الرياض في اليمن وسورية والعراق وفاتحاً الابواب لكل انواع العلاقات مع «إسرائيل»، لم ينفع كل هذا الانصياع المصري في توفير داعم لـ 55 في المئة من المصريين هم تحت خط الفقر و15 في المئة فقراء مقابل ثلاثين في المئة من الطبقتين الوسطى والغنية.
وأخيراً تلقف الجيوبوليتيك الروسي الفرصة السانحة، هناك علاقات سيئة بين بلاده وأكبر بلد عربي جرى تعطيل دوره الهام منذ ذهاب السادات الى «إسرائيل» في 1979.
وسببه انحياز مصر الكامل الى الجيوبوليتيك الأميركي، وسقوط طائرة مدنية روسية في سيناء 2015.
وبما أن موسكو تعرف حاجات مصر فاستقبلت السيسي بالإعلان عن الاتفاق على بناء محطة لانتاج الطاقة النووية في مصر ما يعني تزويدها كهرباء وطاقة بأسعار هامشية.
الى جانب عشرات اتفاقات التبادل الاقتصادي وبناء معامل روسية في مصر توفر عشرات آلاف فرص العمل للمصريين.
أما «ضربة المعلم» فموافقة روسيا على عودة سياحها الى مصر وكان هؤلاء انقطعوا منذ سقوط الطائرة في 2015 ولمن لا يعرف، فإن عدد السياح الروس الذين كانوا يجولون في مصر زاد عن الثلاثة ملايين سائح بواقع اتفاق ثلاثة آلاف دولار للسائح الواحد. وهذا يعني توأمة اقتصادية هامة بين البلدين توفر لمصر ايضاً كل ما تحتاجه من اسلحة يحرمها الأميركيون منها.
ولعدم الاستسلام للأوهام فإن الأميركيين بدعم من السعوديين لن يسكتوا وقد يقدمون عروضاً اقتصادية وتمويلية سريعة لوقف اندفاع القاهرة نحو موسكو، لكن اقصى ما قد يبلغونه هو تحقيق توازن في العلاقات المصرية الروسية من جهة والمصرية الأميركية السعودية الإسرائيلية من جهة ثانية، لأن المصريين يعرفون انهم في قلب الجيوبوليتيك الأميركي منذ 1979 ولم ينالوا الا وعوداً لم تتحقق مع خسارة الدور المصري في الاقليم.
وهكذا يتبين ان الجيوبوليتيك الروسي مندفع في الشرق الاوسط مقابل تراجع الدور الأميركي ولن يتأخر في الذهاب الى الجزائر والعراق، وعندها يعود السوفيات الى الفضاء العربي من دون ايديولوجيا وبسحر أسلحة تثير شبق كامل دول الشرق الاوسط والعالم.