واشنطن وأنقرة والبيدق الكردي.. طلاسم الصراع شمالي شرق سورية
كثافة الاستثمار التركي في ملفي إدلب وشرق الفرات، إضافة إلى استثمار ذرائع الأمن القومي المرتبط بالتهديدات الكردية، جعل من تركيا رأس حربة في شمال شرق سورية، فالتحركات التركية وآليات تفاعلاتها السياسية والعسكرية، وضع أنقرة ضمن الأطراف الرئيسية والفاعلة في سورية، حتى بدت تركيا قائدة للخطط الأميركية الرامية للإطاحة بالدولة السورية، وبناءً على ذلك اعتقدت تركيا، أنها قادرة على فرض التغيّرات في المنطقة وفق نظامها الإخواني، لكن وفي ضوء ما تمّ إنجازه سورية، وانتصار الدولة السورية سياسياً وعسكرياً، غيّرت تركيا من مواقفها تجاه جزئيات الحرب على سورية، وتوقفت عن تحدّي دمشق، وحجزت لنفسها مقعداً في مسار التسويات القادمة.
رغم كلّ المناورات التركية الرامية للقبض على المفتاح الذهبي شمال شرق سورية، إلا أنّ اصطدامها بآلية العمل السورية الروسية أفقدها مرات عديدة توازنها في التعاطي مع المستجدات التي فرضها الجيش السوري، لتعود مجدداً وتبحث عن مصالحها مع روسيا، وقد استطاع بوتين تجاوز العديد من نقاط الاختلاف، لصالح تقاربهما كـ طرفين مؤثرين في أوضاع سورية، بيد أنّ الرومانسية السياسية لم تفلح باحتواء أردوغان، وكان لا بدّ من تأديبه عسكرياً مرات عديدة، عبر فرض جوهر الاتفاق الروسي التركي في سوتشي بالنار؛ هذه الجزئية لم ترق لواشنطن وبدأت بالتلويح بالورقة الكردية بغية جذب تركيا الى المنظومة الأميركية، وبات من الواضح أنّ التوجهات الأميركية لجهة التلويح بالجوكر الكردي، يأتي ضمن معطيات ثلاث:
**الأول- الضغط على تركيا لفرض الرؤية الأميركية في ملفي إدلب وشرق الفرات.
**الثاني- الضغط على روسيا، حيث أنّ الجوكر الكردي كفيل بهذه لمهمة عبر فرض تجاذبات وتعقيدات، الغاية الأميركية منها خلط الأوراق المتعلقة بالشأن السوري.
**الثالث- وضع البيدق الكردي ضمن خارطة الشطرنج في شمال شرق سوريا من بوابة النفط، فالإتفاق الامريكي الكردي، لجهة تطوير حقول النفط الخاضعة للقوات الكردية، وتشغيل المصافي النفطية وتسويق إنتاجها في الخارج، يأتي ضمن أطر التأثير المباشر في جغرافية الشمال السوري، وفرض الكرد كأحد أضلع الحل السياسي في سوريا.
في جانب موازٍ، من الواضح أن رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان، يسعى لسحق الإدارة الكردية تحت أي ظرف، إذ لا يبالي بفقدان ورقة الفصائل الإرهابية التي وظفها في الصراع مع الدولة السورية من جهة، والكرد من جهة ثانية، وذلك في سبيل القضاء على الكرد، ولتحقيق ذلك يلعب على عدة نقاط منها التغيير الديموغرافي في الشمال السوري، ومداعبة خيال الأوروبيين بالتخلص من أزمة اللاجئين بتوطينهم في الشمال، ومغازلة روسيا من جانب، وأمريكا من جانب آخر بإدارة مشتركة لحقول النفط واستغلال العائدات في مشاريع إعادة الإعمار في سوريا، كخطوة أساسية نحو حل أزمة اللاجئين في الداخل والخارج، والانتقال السياسي، تمهيداً لحل دائم للأزمة السورية.
في هذا الإطار، فإن أنظار أردوغان تتطلع لما هو أبعد من جُزئية الكرد، خاصة أن أردوغان يملك أوراقاً تُجيز له مساومة الولايات المتحدة في بعض الجُزئيات التي تنطوي عليها أبجديات الحل السياسي في سوريا، إذ يسعى أردوغان إلى الاستحواذ على حصة كبيرة من مشاريع إعادة الإعمار، الممولة من النفط حال مشاركته في إدارتها، خصوصاً في المناطق الشمالية التي يسعى إلى تحويل سكانها إلى حائط صد أمام الوجود الكردي، للحيلولة دون اتصال أكراد تركيا بهم، ومنع قيام كيانات كردية استقلالية تشجع أكراد تركيا على المطالبة بحكم ذاتي، لكن في المقابل، يُدرك أردوغان استحالة السيطرة على حقول النفط في ظل تمركز القوات الأمريكية بالقرب منها، وتسييرها دورياتٍ لحمايتها، سواءً من داعش أو موسكو ودمشق، لذلك لجأ أردوغان إلى الضرب على الوتر الإنساني لجهة لابتزاز الولايات المتحدة.
ضمن ما سبق من معطيات، يبدو واضحاً حجم المراهنات في سياق التطورات المتسارعة شمال شرق سورية، كما يبدو واضحاً أنّ الورقة الكردية تحتلّ هرم العلاقة الامريكية التركية، فما بين دعم أميركي للكرد وتوظيفهم لهذه الأداة سياسياً وعسكرياً، وما بين هواجس تركيا وخططها تجاه سورية، تكمن العديد من طلاسم الصراع في شمال شرق سورية، فلا تكاد تطوى ورقة في كتاب يوميات الحرب على سورية، حتى تفتح صفحة جديدة غايتها الجوهرية قطع الطريق على منجزات الدولة السورية، وإبطال مفاعيل ما تمّ تحقيقه سورية وروسياً وايرانياً ضمن معادلات التحالف السياسي والعسكري، وهذا يبرهن في محتواه حجم الملفات المترابطة والمعقدة على طول الخارطة الإقليمية، ورغم انّ ملامح الكثير من مناطق الجغرافية السورية قد باتت في مشهدية واضحة لجهة فرض سيطرة الدولة السورية عليها، إلا أنّ بعض بؤر التوتر لا تزال تشهد تعقيدات تؤرق كافة الفاعلين والمؤثرين في الشأن السوري، وهذا بدوره ينعكس توترات وتحديات متزايدة، وجلّ هذا مرتبط بالموقع السوري المؤثر في خارطة التوازنات الاقليمية والدولية.