تركيا وأمريكا بين التحالف الجيوسياسي والمواجهة الاقتصادية
ينطوي الاضطراب الحالي بين تركيا، والولايات المتحدة الأمريكية على تحولات عميقة، ومقلقة، يمكن أن تؤدي إلى أزمة حقيقية يخسر فيها الطرفين، حيث لا تزال أنقرة حليفا مهما لواشنطن، وعنصرا حاسما في الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى كونها عضوا في منظمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" منذ عام 1952، مما سيؤثر على توازن التحالف الأطلسي، أو الشرق الأوسط الذي يعد من أكثر المناطق تعقيدا، كما يظهر تأثير الجيش التركي كثاني أكبر جيش في حلف الناتو.
ومن جانب آخر تركيا هي منصة انطلاق للعمليات العسكرية، على سبيل المثال ، تستخدم قاعدة انجرليك في الجنوب الشرقي من البلاد من قبل قوات الناتو، وحوالي 90 ٪ من القوات المتمركزة هي أمريكية.
نظرة عامة على العلاقات التاريخية بين البلدين
يعزو البعض هذه الحرب الاقتصادية الأمريكية على تركيا إلى تلك السياقات التاريخية التي قد لا يكون المسؤولون أنفسهم مدركين لتأثيرها، حيث لا يمكننا تقويم الاعتبارات المتعلقة بالأسباب التي تجعل كل من ترامب وأردوغان يتصرفان بهذه الطريقة ما لم يقودنا التحليل إلى فهم حيثيات تاريخية تتعلق بالعلاقات بين البلدين، فمنذ حرب قبرص عام 1974 والتي انتهت بفرض حظر أمريكي على توريد الأسلحة إلى أنقرة أدت إلى توتر شديد في العلاقة بين البلدين دامت حوالي نصف عقد، ثم أزمة الأسطول التركية الإسرائيلية عام 2010، وقرار أنقرة عام 2010 بالتصويت ضد العقوبات الإيرانية المدعومة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في مجلس الأمن الدولي.
والحقيقة أن تلك الفجوة لا تزال تلقي بظلالها اليوم، حيث أن اثنين من الإدارات الأمريكية لم تنظر في تأثير السياسة غير المسؤولة اتجاه أنقرة، والتي تربطها علاقات استراتيجية، وتاريخية بالولايات المتحدة الأمريكية، والشرق الأوسط بشكل عام، لذا فإن السؤال المطروح اليوم لا يتعلق بمصير القس أندرو برونسون، وإنما المشكلة الحقيقية هي أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال تتجاهل التأثيرات المختلفة لمحاولة الانقلاب، ومحاولة اغتيال الرئيس التركي رجب أردوغان في 2016 مما أثار الأزمة الجيوسياسية لتركيا في المنطقة، وأكدت على نزوع محتمل لقوى أجنبية على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية نحو محاولة اسقاط النظام التركي.
تركيا في قلب الحرب الاقتصادية الأمريكية
قال المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين " أن الإدارة الأمريكية تواجه خطر فقدان تركيا، وشدد على أن تركيا لديها الحق في المطالبة بأن تؤخذ مخاوفها الأمنية على محمل الجد من قبل حليفها في الناتو، لكن بدلا من ذلك لم تأخذ الولايات المتحدة في الاعتبار اعتراضات تركيا على تعاون الولايات المتحدة مع PYG / YPG ، الفرع السوري لمنظمة PKK ، والانفصالية، كما لم يتصرفوا بشأن وجود FETO في الولايات المتحدة"وقال أيضا : "الجمهور التركي بأكمله يعارض سياسات الولايات المتحدة التي لا تأخذ في الاعتبار المتطلبات الأمنية الشرعية لتركيا، لن تعمل التهديدات، أو العقوبات، أو الترهيب ضد تركيا هذا لن يؤدي إلا إلى تقوية عزيمة تركية، وسيعزل أيضا الولايات المتحدة في تركيا وعلى الساحة الدولية، وقد اختارت إدارة ترامب بالفعل المواجهة مع كندا والمكسيك وكوبا والصين وروسيا والناتو وألمانيا ودول أخرى لأسباب داخلية أساسا، وأضر ذلك بمصداقية الولايات المتحدة كشريك موثوق وحليف، فالتصور لا يختلف في تركيا، وختم أن "الأزمة يمكن أن تنمو بسبب الغرور الذي يسيطر عليها ".
وقد صرح أردوغان أنه "لا يوجد ما يبعث على قلق الأتراك، وإذا كانت لهم دولاراتهم فنحن لنا شعبنا، لنا ربنا" ،هذا وقد فرضت واشنطن عقوبات على اثنين من وزارء الحكومة التركية، وقامت بتجميد أموالهما ردا على اعتقال القس الأمريكي أندرو برانسون، ومواطنين أمريكيين آخرين، فقدت على غرارها الليرة التركية نسبة ستة في المائة من قيمتها خلال أقل من أسبوع.
فإذا كان سيكون لدى تركيا الكثير لتخسره في الوقت الحالي، فإنه في المقابل يظل حلف الناتو ضمانة لأمن تركيا.
وحسب تصريح سونر چاغاپتاي مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن أنه يعتقد مناصرو أردوغان أن تركيا لا تستطيع الوفاء بمهمتها التاريخية المتمثلة بتحقيق عظمة تركيا واسترجاع كرامة الأمة الإسلامية في العالم بدون أردوغان.
من جانب آخر وربما الأكثر أهمية، كان يمكن أن يتم حل المشاكل بين أنقرة، وواشنطن ، أو تخفيفها، في عهد الرئيس السابق باراك أوباما حتى أثناء غزو العراق من قبل بوش، والحفاظ على جانب من العقلانية بين البلدين خاصة بعد رفض تركيا للانضمام إلى حرب الولايات المتحدة، واليوم في ظل إدارة ترمب لم تحاول الولايات المتحدة إخفاء دعمها للمنظمات مثل حزب العمال الكردستاني (PKK ) وحركة Gülenist على حساب علاقاتها المؤسسية مع تركيا، من جهة عدم الرد على محاولة الانقلاب في 15 تموز 2016 وهي حقيقة رفضت واشنطن إلى اليوم الاعتراف بها.
كما كانت قضية فتح الله غولن التركي ، الذي اتهم بتدبير محاولة انقلاب أن تنتهي باتخاذ إجراءات من قبل الولايات المتحدة، وهو ما لم يحدث، و فسر بمحاولة الولايات المتحدة إخفاء تفضيلها لمنظمة "إرهابية دموية" على حساب علاقاتها المؤسسية مع تركيا، ويبدو أن أتباعه في الجيش التركي أدو دورا ملحوظا في الانقلاب الفاشل ضد الرئيس رجب طيب أردوغان في عام 2016.
ووفقا لديدييه بيلون الباحث الاستراتيجي في معهد البحوث الدولية، والإستراتيجية (IRIS) ، فإن الطرفين سيكون لديهم الكثير ليخسروه في حالة التدافع الدائم من خلال القرارات المتطرفة للرئيس دونالد ترامب، حيث تمر الولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب بفترة متقلبة للغاية فيما يتعلق بالسياسة الخارجية منذ توليه مهامه الرئاسية ، وأصبحت العلاقات السياسية والاقتصادية العالمية في الولايات المتحدة "مؤشر الخوف" - "مؤشر التقلب " (VIX) المستخدمة من قبل الأسواق المالية لحساب عدم الاستقرار - غير مستقر للغاية.
الجغرافيا السياسية الملطفة تفاقم ليس فقط عدم اليقين وتعيق إيجاد حلول بناءة للمشاكل العالمية، ولكنها تدمر أيضا الأرضية المشتركة القائمة.
إنها حرب اقتصادية بقدر ما هي أزمة سياسية
بعد فشل الحكومات الائتلافية انقاذ اقتصاد تركيا الذي عرف أشد الأزمات الاقتصادية في تاريخ تركيا تمثلت في الأزمة المالية عام 2001، والتي ساهمت في سنة 2002 في صعود حزب العدالة والتنمية، هذا الأخير أخذ على عاتقه تبني إصلاحات جذرية في كل الميادين السياسة، والاقتصادية، أطلق على الإصلاحات تسمية «تركيا الجديدة» وتم وضع استراتيجية تركيا حتى عام 2023، هذا ويأتي الاقتصاد التركي في المرتبة 17 عالميا ومع إعلان ترامب حرب تجارية ساهمت أكثر في تهديد النمو الإقتصادى ليس في تركيا فقط بل فى جميع أنحاء العالم.
لكن الاقتصاد التركي تعرض إلى اهتزازات قبل فرض العقوبات الأخيرة، حيث تراجعت قيمة الليرة التركية إلى أكثر من 40% من قيمتها مقابل الدولار منذ بداية هذا العام، وقبل اليوم فقدت نحو ربع قيمتها في 2017.
وهو ما أكده بول تي لفين مدير معهد الدراسات التركية في جامعة ستوكهولم إن "الخلاف الدبلوماسي غير الضروري بين تركيا، والولايات المتحدة بسبب القس المسجون، قد فاقم أزمة اقتصادية كانت موجودة أصلا".
كانت الليرة التركية تحت ضغط شديد لأن المستثمرين فقدوا الثقة في إدارة أردوغان للاقتصاد، حيث يركز نظامه الرئاسي الجديد جميع السلطات في مكتبه ، وعمد إلى التخلص من الفصل بين السلطات، كما أحاط أردوغان نفسه بمجموعة من المبعوثين غير المهيكلين، والمستشارين غير المختبرين لمساعدته على توجيه سفينة الدولة، والأهم من ذلك هو تعيين وزير الخزانة، والمالية الجديد بيرات البيرق، الذي يبدو أن مؤهله الأساسي هو أنه صهر الرئيس، واتهم أردوغان أنه يدعو إلى أفكار مثيرة للجدل مثل ارتفاع أسعار الفائدة ، التي تعد هي السبب الرئيسي للتضخم ، أيضا استقلال البنك المركزي ، وقد جاء جزء كبير من الضغط على الليرة نتيجة لتزايد العجز في الحساب الجاري، وارتفاع معدل التضخم، وفقدان الثقة في النظام القضائي الذي يعمل كمنفذ للقصر.
وقد ازدادت خسائر الليرة التركية بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، مضاعفة الرسوم الجمركية على الصلب والألومنيوم التعدين بنحو 20%. أمام الدولار، ووصلت إلى مستويات هبوط غير مسبوقة منذ 2001 بلغت7 ليرات لكل دولار لتنخفض إلى 6 ليرات بعد فرض رسوم جمركية على بعض المنتجات الأمريكية في إطار الرد بالمثل ، علاوة على ذلك شدد أردوغان على أن "الدينامية الاقتصادية لتركيا متينة وقوية ومتأصلة وستستمر كذلك" وقام أردوغان باعتماد خطة الإنقاذ من خلال اتخاذ سلسلة من التدابير من أجل دعم الاستقرار المالي تبناها البنك المركزي التركي، كما صرح أوردغان بتاريخ 11/ أوت 2018 أن بلاده ستستعين باستخدام العملات المحلية في التبادلات التجارية البينية الخارجية .
في المقابل شهدت الأسهم الأمريكية، والأوروبية انخفاضا بسبب انهيار الليرة التركية.
المفاوضات الحل الوحيد للأزمة بين الولايات المتحدة وتركيا
رغم المتاعب التي يواجها الاقتصاد التركي، فإنه يمتلك بعض الحلول التي يمكن أن تساعده في التغلب على هذه الأزمة حتى تهدأ الأمور، فمن ناحية انخفاض نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي ، مما يعني أنه يمكن أن يكون اجتماعيا مبلغا كبيرا من ديون الشركات، ومع ذلك ، فإن خطورة الأزمة، و حاجة الأتراك مع الوقت لتهدئة الأسواق، ووضع نظامها الداخلي يتطلب بعض الإشارات الرمزية الكبيرة، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال لقاء مباشر بين ترامب وأردوغان والذي من شأنه حل القضايا العالقة بين الطرفين ووضعها على طاولة المفاوضات ما يطلق عليه بدبلوماسية الأزمة مثل قضية تسليم السجناء و شراء تركيا لنظام صواريخ S-400 المزمع إنشاؤه ،أو الخلاف حول شمال شرق سوريا ودعم الولايات المتحدة للأكراد كما أن الانهيار الكامل للاقتصاد لا يخدم مصلحة أحد.
ختاما مهما كانت النتائج التي ستؤول إليها نهاية هذه الأزمة ستكون التوقعات تفاؤلية أكثر منها تشاؤمية بسبب موقع تركيا كحليف استراتيجي مهم، وبصفتها عضوا في حلف الناتو وجسرا بين الغرب والشرق، من جهة تعد الولايات المتحدة الأمريكية الحليف الأهم لتركيا، ولا يمكن أن يتصاعد التوتر بين الطرفين، لدرجة أن يصل إلى تعريض تحالف تاريخي للخطر.