رائحة الحرب تفوح فوق المتوسط.. وأردوغان في الامتحان الصعب

15.12.2019

دفعت مذكرتا التفاهم بين أردوغان والسراج إلى توتر غير مسبوق في البحر الأبيض المتوسط، وفي الوقت نفسه إلى إطلاق الجيش الوطني الليبي بزعامة اللواء خليفة حفتر حملة عسكرية هي الأضخم للسيطرة على العاصمة طرابلس، وهذا ما توقعته في مقالتي السابقة، عندما قلت إن تفاهم أردوغان–السراج سيدفع بحفتر إلى القيام بمثل هذه الحملة، لقطع الطريق أمام المشروع الأردوغاني في ليبيا.                                         

جبهة عالمية تتحرك

تفاهم أردوغان–السراج أدى إلى مشهد جديد في المتوسط، فمصر المتضررة من هذا التفاهم، سارعت إلى تنظيم تدريبات عسكرية عبر البحر، أطلقت خلالها صواريخ باتجاه سفن، حيث كانت هذه التدريبات رسالة واضحة، مفادها: إن مصر لن تسمح لتركيا المسّ بمصالحها وتهديد أمنها من بوابة ليبيا، بدورها اليونان التي هي في نزاع تاريخي مع تركيا في بحري إيجه والمتوسط، طردت سفير حكومة الوفاق الليبية، وقدمت شكوى للأمم المتحدة، وفي البحر استنفرت عسكريا واتخذت إجراءات أمنية لمنع تنفيذ أي خطوة عملية في بنود تفاهم أردوغان–السراج، ودعما لليونان تحركت أوروبا، وعقدت قمة تاريخية في بروكسل، أعلنت خلالها رفضها لهذا التفاهم، معلنة دعمها الكامل لليونان، ولعل الأهم هنا، كان الموقف الايطالي الذي أعلن رفضه للتفاهم، منتقدا موقف السراج بعد أن كانت ايطاليا أكبر الدول المؤيدة والداعمة لحكومته، بدورها روسيا ورغم التزامها الصمت، تحركت على الأرض في شرق ليبيا، إذ أرسلت تعزيزات عسكرية وسط أنباء عن عزمها إقامة قاعدة عسكرية هناك، وذلك في دعم مباشر لحفتر، وهو ما يشكل نقطة صدام تركية–روسية، بعد أن ألقت تركيا بثقلها العسكري في ليبيا، وقدمت مختلف أشكال الدعم العسكري  للجماعات المسلحة التي تسيطر على طرابلس، واعتقدت أن تفاهم السراج–أردوغان سيطلق لها حرية التحرك العسكري في ليبيا برا وبحرا وجوا.

هذه المواقف الإقليمية والدولية، شكلت ما يشبه جبهة عالمية في مواجهة السياسة الهجومية لأردوغان، وهي سياسة تستهدف فرض خرائط جديدة في المتوسط، ليس بحثا عن الطاقة فحسب، بل عن إمبراطورية بائدة يريد أردوغان بثّ الحياة فيها.                                        

مصر..  هي الهدف

منذ وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الحكم في مصر، ووضعه نهاية لحكم الإخوان المسلمين هناك، تعيش العلاقات التركية–المصرية واحدة من أسوأ مراحلها، فأردوغان الذي رأى في وصول السيسي للحكم ضربة قاصمة لمشروعه الإقليمي تجاه العالم العربي، وعليه، لا يتوانى عن الهجوم على السيسي في مناسبة ومن دونها، والتدخل في الشؤون الداخلية لمصر، حيث دعمه الكبير لجماعة الإخوان المسلمين ولاسيما بعد أن تحولت تركيا إلى مركز  للتنظيم الدولي للإخوان.

وقد كانت مصر سباقة إلى إعلان رفضها لتفاهم أردوغان–السراج، والتحرك بالتنسيق مع اليونان وقبرص لإفشاله، وإجراء تدريبات بحرية ضخمة شملت إطلاق صواريخ على سفن في محاكاة لحرب افتراضية محتملة مع تركيا ولاسيما أن أردوغان صعد من لهجته وأعلن أنه لا يمكن لمصر واليونان وقبرص وإسرائيل التنقيب عن الطاقة في المتوسط من دون موافقة بلاده.

لكن ما يخيف مصر أكثر، هو الجوانب التي تستهدف أمن مصر، فليبيا ليست مجرد دولة جارة لمصر فحسب، وإنما تشكل عمق أمنها القومي ولاسيما أن شرق ليبيا تشكل امتدادا تاريخيا واجتماعيا وأمنيا واقتصاديا لمصر، وعليه فإن الدعم العسكري التركي للجماعات الليبية المسلحة تشكل تهديدا مباشرا لأمن مصر وحلفائها في ليبيا، ولاسيما أن الدور التركي في الالتفاف على مصر بات واضحا، تارة من الصومال وأخرى من السودان في عهد البشير واليوم في ليبيا، بل وحتى من سيناء المصرية، حيث تحدثت تقارير عديدة عن دعم استخباراتي وعسكري تركي للجماعات المرتبطة بالقاعدة وداعش في سيناء، إذ نفذت هذه الجماعات خلال السنوات الماضية العديد من العمليات الإرهابية، وهو ما استدعى قيام الجيش المصري بعمليات واسعة ضد هذه الجماعات في الواقع مع التأكيد أن مصر هي الهدف الجوهري  للتحرك التركي في ليبيا، فإن مصر بدت مستعدة للرد والمواجهة والتحرك، خاصة وإن الرئيس السيسي دعا إلى إجراءات رادعة ضد الدول الإقليمية الداعمة للإرهاب في إشارة إلى تركيا.

أوروبا .. استيقاظ الذاكرة والتاريخ

أعاد أردوغان بسياسته العثمانية المستفزة في المتوسط إلى ذاكرة الأوروبيين، التاريخ الدموي للعثمانيين تجاه أوروبا، وهو تاريخ يقف على إرث دموي مع سيطرة العثمانيين على القسطنطينية - إسطنبول عام 1453 ودقّ السلطان سليمان القانوني أسوار فيينا ومحاولة اجتياحها، هذا الإرث الدموي لا يمكن إلا أن يقفز إلى ذاكرة الأوروبيين عندما يتحدث أردوغان بلهجة الفرمانات والأوامر العليا في المتوسط، حيث اليونان التي تشكل بوابة أوروبا، والمفارقة هنا، هي أن تركيا أردوغان التي تتحدث بهذه اللغة مع أوروبا، هي نفسها التي تقف على أبوابها منذ نحو ثلاثة عقود بحثا عن عضويتها.

يقينا أن أوروبا صمتت على أردوغان طويلا، فالرجل يهدد دولها تارة بإرسال ملايين اللاجئين وأخرى بالدواعش المعتقلين لديها وثالثا بإتهام زعماء أوروبيين بالنازية والفاشية والهجوم المباشر عليهم كما حصل مع الرئيس الفرنسي ماكرون قبل فترة، ربما أوروبا تحملت كل ذلك لأسباب إنتهازية ومصلحية، ولكن عندما يصل الأمر إلى أمن المتوسط وأوروبا عموما ومستقبل الطاقة وتهديد اليونان التي هي بوابة أوروبا، فإن الدول الأوروبية لم تقف مكتوفة الأيدي تجاه السلوك التركي الهجومي هذا، ولعل تفاهم أردوغان–السراج شكل بداية لانتهاج أوروبا سياسة مغايرة ضد أردوغان بعد أن هادنته طويلا، بل وكان موقفها العام انتهازيا من العدوان التركي على شمال شرقي سوريا حيث الحليف الموثوق "قسد" الذي استطاع إلحاق الهزيمة الكبرى بداعش، وهو ما يعني ضرورة تصحيح هذه الدول مواقفها وصولا إلى تقديم المزيد من الدعم لــ"قسد" في مواجهة السياسة التركية العدوانية.

أردوغان في الامتحان الصعب

من دون شك، أردوغان استفز العالم ضد سياسته الهجومية في المتوسط التي تقول التقارير إنها ستكون الشريان العالمي للطاقة في المستقبل، وهو بهذا التفاهم وضع نفسه في امتحان صعب، ولاسيما مع مواصلة حفتر هجومه على طرابلس، وإعلانه المضي فيه حتى السيطرة عليها وطرد الجماعات المسلحة المرتبطة بتركيا منها، وهو ما يعني نهاية المشروع التركي في ليبيا، وإن حصل ذلك فستكون التداعيات على تركيا أكبر من تداعيات سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر، والسؤال هنا، ماذا سيفعل أردوغان فعلا إذا تأكد أن حفتر سيسيطر على طرابلس؟ وهل سيبادر إلى تقديم المزيد من المساعدات العسكرية للجماعات المسلحة رغم وجود قرار دولي بمنع توريد السلاح إلى ليبيا ؟ وهل سيرسل الجيش التركي إلى ليبيا للقتال ضد قوات حفتر لمنع سقوط طرابلس؟

من دون شك خيارات أردوغان صعبة جدا، فهو من جهة لا يتحمل تداعيات سقوط  طرابلس بيد حفتر، ومن جهة أخرى يدرك ان إرسال قوات تركية إلى ليبيا قد يؤدي إلى تفجر حرب إقليمية كبرى، إذ إن الدول العربية ولاسيما مصر والخليج العربي لن تسكت على مثل هذا العدوان مهما غلفه أردوغان بحجج ومبررات.

وفي هذا السياق، فإن اللقاء الذي أجراه وزيرا الخارجية والدفاع التركيين مع السراج في قطر حمل معاني كبيرة لجهة التنسيق بين هذا الثلاثي التركي الليبي القطري بخصوص كيفية التصرف في المرحلة المقبلة إزاء هذا الاستحقاق.

ومع أن أردوغان أوصل الأمور إلى نقطة كبيرة من التوتر والتصعيد، فانه قد لا يجد أمام هذه الوقائع إلا الدعوة للحوار وربما إحالة الأمر برمته إلى الأمم المتحدة بحثا عن مخرج لورطته، وإلا فإن رائحة الحرب في البحر قد تنطلق من فوهات المدافع والصواريخ والطائرات في كل الاتجاهات.