ما وراء المواجهة الدبلوماسية بين روسيا والغرب
سكريبال الذي وجد وابنته يوليا مغمى عليهما في الشارع بتاريخ الرابع من مارس 2018 الجاري، إثر تسميمهما بمادة مجهولة وتم نقلهما إلى مستشفى في سولسبري وهما حتى تاريخه في حالة حرجة، تصدرت قضيتهما الشأن العالمي مؤخرا، كمطية لمحاولة كبح جماح القطب الروسي العائد لسدة الصدارة العالمية من جديد.
هذه القضية المفبركة التي أنتجتها دوائر قرار كل من أمريكا وبريطانيا العظمى، بهدف مقاومة الحقيقة المطلقة، التي أشهرها الرئيس الروسي فلادمير بوتين - بداية شهر مارس الجاري - خلال خطابه السنوي، معلنا روسيا الاتحادية سيدة أولى في عالم التسلح العالمي بلا منازع، عقب كشفه عن جملة من الأسلحة والصواريخ النووية بلغت 14 سلاحا نوعيا، ما أصاب هذه الدوائر بالهستيريا، فراحت تحقن الأعصاب بالسم.
تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية وجهت الاتهام إلى موسكو مباشرة بوقوفها على خلفية محاولة اغتيال العميل سكريبال وابنته، مدعية استخدام غاز "نوفيتشوك" السام المشل للأعصاب، بحجة أن روسيا المالك الوحيد لهذا الغاز.
تيريزا ماي مع وزير خارجيتها بوريس جونسون، تبنوا شن حملة تشهير واستفزاز ضد موسكو نيابة عن الولايات المتحدة والدول الغربية على رأسها فرنسا بدعم كامل، ظهر ذلك جليا خلال جلسة مجلس الأمن الخاصة بهذه القضية والتي عقدت في 14 مارس الجاري، فالتبني الأمريكي – الفرنسي لذلك في بيانات مندوبيهما كان لا يشق له غبار.
تزايدت حدة التصعيد والتهديد في هذه القضية، فبادرت بريطانيا بطرد 23 دبلوماسيا روسيا، عقبتها أمريكا التي طردت 60 دبلوماسي، وتعاقبت الدول الأوربية التي قامت بنفس الفعل، ليبلغ عدد الدبلوماسيين الروس 137 شخصا من 23 دولة، واللافت هنا طرد أوكرانيا لوحدها فقط 13 دبلوماسيا، مما يؤكد الشكوك الروسية حول ضلوع هذه الدول بافتعال الأزمة الأوكرانية على حدودها الغربية.
لم تقف موسكو مكتوفة اليد، بل توعدت برد "حازم ومكافئ" على "الاستفزاز الوقح وغير المسبوق" إشارة إلى التدابير التعسفية البريطانية ضد روسيا، على خلفية اتهام موسكو بمحاولة الاغتيال.
حيث أصدرت الخارجية الروسية في 15 مارس بيانا صارما، غير مسبوق اللهجة في البيانات الدبلوماسية الرسمية، واصفا بيان رئيسة الوزراء البريطانية أمام مجلس العموم بأنه "استفزاز وقح وغير مسبوق، يقوض أسس الحوار بين البلدين"، وتعهدت الخارجية بأن الرد الروسي سيكون "سريعا ومكافئا وحازما".
كما أكدت على لسان مندوبها الدائم في الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا "استعدادها لإجراء تحقيق مشترك مع بريطانيا في القضية، ونفت بشدة الاتهامات المنسوبة لموسكو من لندن".
وقد أعلنت في 17 مارس الجاري أنها ستطرد أكثر من 20 دبلوماسيا بريطانيا، ردا على الإجراء المماثل الذي اتخذته لندن، وأضافت الوزارة تعليقها عمل المركز الثقافي البريطاني في روسيا.
وزارة الخارجية الروسية أكدت أيضا عزمها الرد على عمليات طرد الدبلوماسيين، وأعربت في بيان لها في 26 مارس عن احتجاجها الشديد على طرد الدبلوماسيين، واصفة تلك الخطوات بأنها "استفزاز"، وبأن "هذه الخطوة غير الودية، لن تمر دون أثر، وسنرد عليها"، وقالت: "إن هذه الخطوة تضر بمحاولات التعرف على الطرف المذنب في الهجوم على سكريبال وابنته".
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أكد ذلك أيضا بقوله يوم الخميس 29 الجاري:"إن بلاده سترد بالمثل على الدول التي أبعدت دبلوماسيين روس".
وكأول إجراء بالرد على ذلك، كان قرار موسكو طرد 60 دبلوماسيا أمريكيا، مع إغلاق قنصلية الولايات المتحدة الأمريكية في مدينة سانت بطرسبرغ الروسية، ردا على قرار واشنطن بطرد الدبلوماسيين الروس.
وبعيدا عن الفعل ورد الفعل بالمثل، والذي يحمل طابع العدائية المفرطة والعمياء تجاه روسيا الاتحادية، لابد من الوقوف على خلفية هذا السعار المحموم، ولا يصح ذلك إلا بالعودة لأخر التطورات على الساحة العالمية، فالصراع واحد، والمعركة واحدة وأن تشعبت أو تم تظهيرها من حروب الوكلاء لحروب الأصلاء، لنجد أن من جملة الأسباب الرئيسية لكل الحاصل هو:
أولا: خسارة المحور الأطلسي وكلائهم على الساحة السورية، والتي تقترب من إغلاق ملفات الإرهاب فيها بشكل شبه كامل، لتتفرغ لحسم التسويات أو المعارك الكبرى، المتعلقة بالوجود الغير شرعي لكل من الأمريكي والتركي والإسرائيلي على أرضها.
ثانيا:الغرق في مستنقعات الساحة اليمنية والتطورات اللافتة فيها، التي كان آخرها قصف الرياض بمجموعة صواريخ باليستية، من قبل حركة "أنصار الله" مساء الأحد 25 مارس الجاري، مترافقا مع الخلل والفشل في منظومة الباترويوت التي حاولت اعتراضها، سبق ذلك أيضا تدخل روسيا "بالفيتو" وعزمها العمل على إنهاء هذا الملف، عن طريق إيجاد حلول سياسية، توقف التصعيد والعمليات العسكرية الغير مبررة، بحق الشعب اليمني.
ثالثا: الارتباك في الإدارة الأمريكية، الذي ترافق بإقالات بالجملة، وتسليم كل من الخارجية ومستشارية الأمن القومي لجنرالات عرفت "بالصقور"، سمتها خلق النزاعات والتشجيع على الحروب، بحجة الضغط للخروج من الاتفاق النووي الإيراني، والتمهيد لتسوية لجهة الملف النووي الكوري الشمالي، وفي هذا الأمر من التناقض ما يثير الكثير من الدهشة والعجب! فهل لعاقل أن ينقض اتفاق نوويا لينجز آخر؟
رابعا: وهو الأهم والسبب الأساس على خلفية كل ما يصدر الآن تجاه روسيا الاتحادية وحلفائها، وهو حالة الصدمة التي تعيشها كل من الولايات المتحدة والدول الغربية ممثلة ببريطانيا وفرنسا، جراء عودة روسيا للصدارة بمبدئية دولية راسخة، وترسانة نووية لا تضاهى، وما أثاره هذا الأمر من الشعور بحالة من العجز والعري لدى هذه الدول.
روسيا التي عمدت مقعدها في الأمم المتحدة - كعضوا دائما بين الدول الخمس الكبار - بدماء ما يقارب 30 مليون مواطن روسي، قدموا على مذبحة الحرية والحق في الدفاع عن الأوطان، خلال الحرب العالمية الثانية ضد النازية الهتلرية آنذاك، لن تكون - بحسب التجارب – تلك المطية لمن تشدق دوما بحقوق الإنسان وحريته، من النازيين الجدد أمريكا وحلفائها خاصة الغربيين منهم.
فقد نجحت روسيا في الكشف عن العقم لدى أخصامها بالنار والسلاح، وبالتفوق النووي الردعي التي أصبحت تمتلكه، مجسدة ذلك بقول الرئيس بويتن في خطابه الشهير بداية مارس الجاري "إننا ندرك جيدا أن عددا من الدول تعمل على إيجاد أسلحة واعدة على أسس الفيزياء الجديدة، ويمكننا القول إننا هنا في المقدمة".