التداعيات الجيوسياسية لإسقاط الطائرة الروسية ... هل ستسرع بتوجه الجيش السوري إلى شرق الفرات

24.09.2018

لم تكن حادثة إسقاط الطائرة الروسية التي دبرها سلاح الجو الإسرائيلي حدثاً عرضياً، ولا حتى ضرورة تكتيكية لحماية الطائرات المهاجمة من الصواريخ السورية، إنما حملت فيها بعداً خطيراً جداً لم يظهر للعلن على هذه الشاكلة من قبل، حيث هدفت هذه الهجمة إلى الإيقاع بين كل من روسيا وسوريا، وتصعيد الملف أمام الرأي العالمي، لخلق مساحة أكبر لعمل الجيش الإسرائيلي ضد كل من سوريا وإيران في الداخل السوري، كخطة محكمة بتطويق إيران من كل الجهات وتحويل القواعد الروسية والتواجد الروسي في سوريا إلى عامل معيق وسد منيع ضد النشاط الإيراني، بطريقة السعي الإسرائيلي لإلقاء اللوم على النشاط الإيراني الذي يحفز رد الفعل الإسرائيلي والتي ذهبت ضحيته طائرة روسية.

هذه الخطة وضعت في إطار زمني بالغ الحرج، حيث إعلان الاتفاق بين كل من بوتين وأردوغان في سوتشي والذي تضمن وقف اطلاق النار في إدلب وسحب القوات بعمق 15 كم عن خطوط الاشتباك، ولكن ما كان يعني إسرائيل ليس إدلب والاتفاق حولها، وإنما ما حمله أردوغان للمساومة به بشأن ملف إدلب مع بوتين، حيث حمل معه أهم الأحلام الإسرائيلية التي أيقظتها تركيا مؤخراً بعودة فتح المباحثات مع إسرائيل حول إعادة السفراء وترميم العلاقات الثنائية، ووضع رؤية للتعاون حول ملف الطاقة وبالأخص ملف الغاز، حيث قبلت تركيا المفاوضة على خط الغاز المصري الإسرائيلي "ايست ميد" وإنهاء الخلاف القبرصي بين قبرص اليونانية والتركية ما يعني تقليص تكاليف البناء للأنابيب لأقل من الربع وخفض مبالغ التأمين بشكل خيالي وفتح السوق الأوروبي أمام الانتاج الإسرائيلي والمصري، على حساب الحصة الروسية وخط الغاز الروسي الجديد "السيل الجنوبي"، مقابل توسط إسرائيل لعودة العلاقة التركية الأمريكية وإنهاء الصدام إذا اضطر الأمر.

لكن مالم تكن تدركه إسرائيل هو أن هذه المفاوضات السابقة لم تكن إلا خطة احتياطية أردوغانية في حال إصرار موسكو على تصفية الدور التركي كاملاً في سوريا، بسبب ما لذلك من تداعيات على الدور التركي في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بالكامل، إلا أن إدراك الرئيس بوتين لموقف أردوغان وتداعياته، شجع نحو إتمام اللقاء باتفاقيات ثنائية على عدة مستويات والتأكيد على الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية بين البلدين، بالإضافة إلى الاتفاق حول إدلب السورية الذي توج كل التفاهمات السابقة، بالتالي وجدت إسرائيل نفسها محاطة بمستقبل طاقوي محبط، ومقبلة على خسائر مادية باهظة، بسبب تزايد التهديد الإيراني من جهة، وتحول مصر من مستورد للغاز من إسرائيل إلى منتج هائل له من جهة ثانية، فكان لابد من إنشاء خطة عسكرية استخباراتية إسرائيلية محكمة لتطويق إيران، وتوتير العلاقات بين الشركاء في سوريا، وإعادة استمالة روسيا من مبدأ الأمن القومي الإسرائيلي كنقطة توافق روسية أمريكية قد تؤسس لتقارب جديد كخيار الضرورة لروسيا تحت تأثير تحشيد قوات الناتو في المتوسط، وضغط الملف الكيميائي.

كل هذه المعطيات أصبحت واضحة للقيادة الروسية بعد التأني بدراسة الحادثة والمعلومات الدقيقة التي قدمها جهاز الاستخبارات العسكرية الروسية والتي ساعدت على توفيرها المعلومات التي كانت توفرها الطائرة المنكوبة بسبب حجم وتطور أجهزة الاستطلاع والتجسس الموجودة فيها، لينقلب السحر على الساحر، وتنكشف النوايا الإسرائيلية والتي كانت أشبه بحادثة استهداف إسرائيل لسفينة البحوث التقنية الأمريكية (USS Lebrety) في حرب 1967 لاتهام مصر بها، بالتالي أصبحت موسكو على يقين شديد بأن المصالح الإسرائيلية بدأت تتضارب مع المصالح الروسية في الشرق الأوسط بشكل كبير ومباشر، وأن الكيان الإسرائيلي لا يسعى لتسوية مشتركة لهذه المصالح أو تفاهمات مستقبلية، وإنما لتوريط روسيا وعزلها في شرق المتوسط، ما يعني تورط الكيان الإسرائيلي بدور عدائي كبير مشترك مع الناتو، على عكس ما كانت تحاول إسرائيل تصوير نفسها على أنها راغبة في أن تكون جزء من الاقتصاد الأوراسي، وهو ما جعل الكيان الإسرائيلي يترك خلفه فاتورة تعويضات كبيرة يجب في النهاية على أحد ما أن يدفعها.

ومجرد إعلان الرئيس بوتين تسليم منظومة الدفاع الجوي S-300 إلى سوريا بالإضافة إلى تحديث المنظومة الرادارية السورية لتصبح إسرائيل عاجزة حتى عن استهداف هذه المنظومة، يعني أن المعني بدفع الفاتورة لم يعد فقط الكيان الإسرائيلي، وإنما الجيش الأمريكي وقوات الناتو التي يتزعمها، وهو ما يعتبر متغير بالغ الأهمية، حيث سيؤدي إلى أمرين رئيسيين تعتبرهما كل من واشنطن وتل أبيب من مهددات الأمن القومي لكلا البلدين، الأول سيعزل السماء السورية عن أي نشاط جوي إسرائيلي أو أمريكي وينهي التفوق الجوي، والذي يسمح بدوره للجيش السوري التوجه لمواجهة القواعد الأمريكية في شرق الفرات وخلق تهديد عسكري كبير وخطير للقواعد الأمريكية التي ستتحول إلى أهداف سهلة عوضاً من أن تكون نقطة ارتكاز جيواستراتيجي، والأمر الثاني هو تأمين تغطية كاملة للقوات الإيرانية ولحزب الله لممارسة النشاط ضد إسرائيل بحرية مطلقة، وتوحيد الجبهات، ورفع الإمكانيات القتالية إلى حد كسر التوازن بين محور المقاومة وجيش الاحتلال، والذي بدوره يعلن عن اصطفاف جديد لروسيا، ورؤية جديدة لمستقبل المنطقة الأمني والجيوسياسي، بعيداً عن الرؤية القديمة والمتمثلة بالأمن الجماعي والتي كانت تشمل الكيان الإسرائيلي، الذي أثبت لموسكو أنه غير جدير بها، وبأنه شر على الجميع لا يمكن تحقيق الأمن والاستقرار معه من خلال مراعاة مصالحه، ومن هنا نقول أن حادثة إسقاط الطائرة الروسية لم تكن حدثاً بحد ذاتها بقدر ماكانت بداية بمرحلة وسلسلة جديدة من الأحداث والرؤى، حيث عبرت العلاقات الروسية الإسرائيلية نقطة اللاعودة.