السور الأخير للأحادية الأميركية من إدلب إلى طهران!
الحروب الأميركية على إيران والمشرق العربي واحدة الأهداف إنما بعناوين وهمية مختلفة وجغرافيا تبدو متباعدة بالكيلومترات فقط ومترابطة بالمشروع العميق.
ومع تراجع الدور الأميركي في هذا المدى الواسع المكتنز للثروات منذ نصف عقد تبذل الإمبراطورية الأميركية جهوداً استثنائية جبارة لوقف التراجع، فتسارع لنصب سور شديد الترابط استراتيجياً يخترق الحدود السياسية لأكثر من دولة رابطاً بين ادلب الى شرق الفرات في سورية مروراً بالعراق ناصباً طوقاً كبيراً حول إيران لا يستخدم الأميركيون هنا قوتهم العسكرية فقط وجهود الإرهاب وألاعيب تركيا وعدوانية «إسرائيل» وانحطاط آل سعود بل يضعون كامل إمكانات إمبراطوريتهم الاستراتيجية والسياسية والتاريخية والعسكرية والتحالفات في خدمة خنق إيران وإزهاق الدور التاريخي السوري.
انما ما هي الأسباب التي تفرض على الأميركيين الزجّ بكامل قواهم في معركة في إطار الشرق الأوسط حيث تواليهم الأنظمة الموجودة؟
أدرك الأميركيون أنّ هذه المعركة مصيرية جداً، لأنّ نجاة سورية من مشاريع التفتيت تعني ربطاً مع العراق وإيران في الاستراتيجيات الكبرى ووصلاً بروسيا والصين، حيث ينقلب اللقاء السوري العراقي الى مشروع متعدّد الجنسيات والأبعاد لإسقاط الأحادية الأميركية وعزلها في المحيطات البعيدة بين الأطلسي بحر الظلمات والهادي بحر المنافي البعيدة.
ما يعزّز القلق الأميركي من هذا المصير القاتم انجذاب أوروبا الى الخروج من التسلط الأميركي عليها نحو الشرق الأوسط حيث الثروات التي لا تنضب وإعادة إعمار تاريخية بترليونات الدولارات المفتوحة على أرقام أكبر، يكفي انّ الرئيس الروسي بوتين أثار سيلاً من لعاب المانيا وفرنسا عندما قال لهما في مؤتمر اسطنبول الأخير إنّ لدى سورية ثروات من كلّ شيء أكثر من السعودية مع معظم بلدان الخليج مجتمعة.
فهل ينجح خط الدفاع الأميركي في وقف تراجع إمبراطوريته؟ وإنقاذ سيطرتها الأحادية على العالم؟
لدى واشنطن إمكانات ضخمة تفوق إمكانات عشرات الدول في آن معاً ومهما كان مستواها، لأنها تجمع بين التفوّق العسكري والاقتصادي والثقافي والجيوفضائي، لكنها للمرة الأولى منذ تشكل نفوذها بعد 1945 تواجه تحالفاً يضمّ دولاً نخبوية قيد التشكل ولديها مشاريع، فالصين تختبئ خلف سلع كونية عابرة للعراقيل الحدودية برخصها وتهدّد الاقتصاد الأميركي والمتحالفين معه أما روسيا فتخترق الحدود السياسية للنفوذ الأميركي يتقدّمها سلاحها ذو النوعية الجيدة والمنافسة ولديها مشروع العودة الى القرار الدولي انطلاقاً من المربع السوري على أن تواصل زحفها «قطعة قطعة» بالمشاركة في حروب إقليمية حيناً ومفاوضات لافروف التي لا تتحدّث إلا عن «شركاء» في معظم الأوقات، لكنها تحاربهم في معظم الجبهات.
إنّ ما يربط بين الزحف الصيني وعالمية الدور الروسي وصمود سورية هو نقطة الربط الإيرانية وإذا كانت موسكو وبكين قوى مرشحة لنفوذ دولي هام فطهران بدورها نجحت في ظروف صعبة من الحصار الأميركي الأوروبي الخليجي الإسرائيلي في بناء تحالفات أميركية في قلب العالم الإسلامي المنصاع للنفوذ الأميركي الوهابي.
أدّى هذا التطور الروسي الصيني الإيراني السوري إلى ولادة محاولات أميركية سريعة لوقف اتجاهات هذه الدول الأربع الى التحالف. فنالت الصين عقوبات تجارية واقتصادية، وكذلك روسيا التي أصابتها عقوبات ترامبية طائشة لمحاولات إثبات الدور الأميركي وبنت واشنطن بسرعة خطة من إدلب الى إيران لمنع الاتصال مع روسيا والصين بحراً من المتوسط وبراً من طريق إدلب شرق الفرات العراق فإيران.
ميدانياً، نجح الأميركيون باستنهاض الغرب للوقوف في وجه استكمال نصر سورية من خلال عملية تحرير إدلب وحوّلوها معركة ضدّ الإرهاب بقسميه الداعشي والحليف لتركيا حرباً للدفاع عن المدنيين في إدلب من هجمات محتملة للجيش السوري كما تلاعبوا بالطموحات التركية فيها موقفين خطة تحرير المنطقة الى إشعار «تركي» آخر، داعمين الإرهاب فيها بكلّ ما يحتاجه وفاتحين خطوط اتصال له مع شرق الفرات بإشراف أميركي وتركي «خجول».
كذلك حوّل الأميركيون شرق الفرات الى خطوط قتال كردية سورية وكردية داعشية وأميركا تراقب ما يجري فتدعم المتخلّف وتحذّر المنتصر.
حتى أصبحت مناطق شرق الفرات جبهات حرب مفتوحة تؤمن لواشنطن استمرار الأزمة السورية من إدلب إلى البوكمال بتغطية أميركية تتذرّع بهذا القتال لتبرير بقاء الجيش الأميركي وتحالفاته الدولية فيها.
ولاستكمال خطوط التوتير أعاد الأميركيون إشعال الأزمات السياسية في العراق ما يعني استكمال تشكيل الحكومة فيها. وهذا كافٍ بمفرده لبناء الخنادق السياسية داخل القوة الواحدة و»تشليع» العراق إلى أكثر من ثلاث مناطق. فكيف نفهم انقسام الحزب التاريخي الواحد الى عشرات الاتجاهات المتباينة الى حدود التناقض، فالكرد أكراد والسنة سُنن والشيعة أشياعٌ والأقليات اصبحت جزئيات. هذا الى جانب وجود عشرات القواعد الأميركية التي تسيطر على مفاصل استراتيجية داخل البلاد وتعطّل فتح الحدود فعلياً بين سورية والعراق.
ولاستكمال حائط الصدّ الأميركي ابتدأ الأميركيون بتطويق إيران اقتصادياً وسياسياً واستراتيجياً وعسكرياً مستعملين لذلك أدوات عالمية وإقليمية ومحلية يعتقدون انها ضرورية لمقابلة حجم إيران الكبير عربياً وشرق أوسطياً. وهذا ما يجعل واشنطن تعتقد أنها نجحت ببناء هذا الحائط الذي يلعب مؤقتاً دور الرادع لاستكمال بناء السيادة السورية والتقدم الصيني المخيف وعودة «روسيا السوفياتية» الى العالم إنما من دون أيديولوجيا. وهذا يعني بلغة السوق أرجاء موعد انهيار الإمبراطورية ومنع تشكيل بناء دولي متعدّد القطب.
فهل ينجح المشروع الأميركي؟
يعتبر الروس أن إفلات طهران من مشروع خنقها أميركياً هو تدمير للسيطرة الأحادية على العالم، لذلك لم يتورّعوا عن التصريح العلني بدخولهم معركة الدفاع عن إيران بكل السبل المطلوبة اقتصادياً وبمستويات أخرى موازية للخطة الأميركية. وكذلك تفهم الصين معركة إيران على أنها معركة حماية الانتشار الكوني لسلعها، لذلك فهي لن تلتزم بأي قرار أميركي معاد لإيران تمهيداً لإعلان حلف معادل لدرجات العدوان الأميركي عليها.
أما بالنسبة لإدلب. فالمرجّح أن بكين وموسكو تعتقدان أنها أزمة للأميركيين أكثر من كونها مشكلة لهما، لأن رعاية الإرهاب أمر مضنٍ. فبالإمكان الاستثمار به لمدة محددة، وماذ نفعل به بعد ذلك؟ اي عندما يصبح شائكاً ومنهكاً؟ ويرتدّ علينا وعلى المشرفين عليه في تركيا؟
هنا أسألوا مَن كان به خبيراً عند الخليجيين والترك، فكيف تفوز أميركا ببناء حائط يستند الى خلافات كردية تركية وكردية داعشية وكردية إرهابية تركية مع الدولة السورية وحلفائها وسوريّة أميركية. هذا بالإضافة الى نجاح إيران في إعادة تجميع معظم حلفائها في العراق مع رئيس الحكومة الجديد.
يتبين بالمحصلة أن مشروع الحائط حقيقي، لكن السيول السورية الروسية الإيرانية لن تتأخّر في التأسيس لانهياره تحت وطأة الإصرار على سيادة سورية والدور الإقليمي الإيراني ومشاريع إسقاط أحادية راعي البقر الأميركي.