الرفض الدولي والتطويق الأقليمي.. على ماذا يراهن البرزاني

07.10.2017

انفصال كردستان واقع صدم برفض الحليف الأمريكي، واستنكار أوروبي، وتصعيد خطير لدول الأقليم، وصل إلى رتبة الحظر والحصار، والتلويح بالعمل العسكري الأقليمي المشترك ضد إجراءات كردستان الإنفصالية، هذا هو المشهد الذي يرافق النزعة الانفصالية لأكراد العراق، وهو مشهد كاف نظرياً للتنازل عن حلم الدولة مقابل الاستمرار، خاصة مع تهديد تركيا بغلق أنبوب النفط الواصل من كردستان العراق إلى ميناء جيهان التركي، والذي يعتبر الشريان الرئيس لاقتصاد أربيل التي فشلت في تنويع مواردها، فأين هو الحلم الكردي القديم الحديث لإنشاء الدولة المنشودة وسط هذه البيئة العدائية من المتغيرات؟
بكل تأكيد لم تغب هذه العوامل والتداعيات عن حسابات البرزاني قبل الإقدام على هذه الخطوة التي تعتبر على أقل تقدير زلال يهز ركائز الأمن القومي الأقليمي، ولكن اجتماع الظروف الداخلية والاقليمية والدولية الملائمة جعلت من إجراء الاستفتاء ضرورة وشهوة برزانية لايمكن كبحها.
من الناحية الداخلية تتضائل فرص بقاء البرزاني أمام الأحزاب الكردية المعارضة سواءً حزب الاتحاد الوطني الذي يسعى لتحجيم البرزاني وحتى استبداله إن استطاع إلى حركة التغيير الكردية التي ترى أنه من الضرورة حل المشكلات الداخلية المتفاقمة في الأقليم كالرواتب والكهرباء و الانحدار المستمر لمستوى المعيشة  والذي عجز البرزاني عن تحقيق أي تقدم يذكر في هذا المجال، ما دفعه إلى انتهاج أحد أخطر الأساليب في علم إدارة الأزمات وهو أسلوب تصدير الأزمة، حيث سببت فكرة إجراء الاستفتاء وحدها شقاً للصفوف الداخلية للأحزاب المعارضة وحتى في الحزب الديمقراطي الكردستاني نفسه (الحزب الحاكم)، وهو ماعمل عليه البرزاني من خلال قياس تأثير الاستفتاء على الشارع السياسي الكردي قبل إجراءه، والتي كانت نتائجه مرضية بالنسبة لطموحه الشخصي بالبقاء في السلطة، وذلك بإعادة الاصطفافات السياسية بشكل كامل داخل الشارع الكردي، ووأد أي محاولة لتكتل سياسي حزبي مضاد قد يطيح به مستقبلاً.
وما يزيد من حدة هذا التصدع هو الاستعجال غير المبرر لإجراء الانتخابات الرئاسية، مايشير إلى أن أبعاد الاستفتاء الداخلية كانت قيد التدقيق والدراسة المستمرة منذ فترة ليست بقليلة، أما على المستوى الأقليمي يدرك البرزاني تماماً أن إيران ليست بوارد شن أي عمل عسكري ضد كردستان والذي قد يحول البرزاني لبطل قومي أقليمي ويحرك في ذات اللحظة المشاعر القومية لأكرد إيران التي عملت طهران طويلاً لاحتوائها على حساب الانتماء الطائفي، حيث يشكل الأكراد الشيعة الغالبية العظمى من أكراد إيران.
أما بالنسبة لتركيا العضو في حلف الناتو فهي لا تستطيع من الناحية القانونية شن عملية عسكرية على أقليم كردستان العراق، حيث وقع الأقليم بروتوكولات واتفاقيات في تموز2017 مع الولايات المتحدة الامريكية أصبح على أثرها جيش احتياط للناتو لمدة 20 عام والتي تضمنت أيضاً إقامة خمس قواعد عسكرية (قاعدة للمقاتلات الحربية في منطقة حرير، قاعدة في منطقة التون كوبري لوحدات الأسلحة المتوسطة، قاعدة في أتروش خاصة بقوات المارينز والمروحيات، قاعدة جبل سنجار المخصصة للمروحيات القتالية، قاعدة في حلبجة خاصة بإعداد قوات البشمركة)، إضافة لعلم البرزاني المسبق بأولوية الحكومة التركية بالقضاء على حزب العمال الكردستاني وتحجيم قوات سورية الديمقراطية في شرق الفرات وفي عفرين على وجه الخصوص، بالتالي تركيا بعيدة كل البعد من الانخراط في أي عمل عسكري مفاجئ على حساب أولويات الأمن القومي التركي، حتى إغلاق خط النفط لكردستان العراق هو بمثابة قنبلة اقتصادية ستصيب شظاياها الاقتصاد التركي المتراجع أساساً، حيث أن تركيا تستفيد من  حقوق النقل التي تحصل عليها عن كل برميل نفط، إضافة إلى الفائدة العائدة من الاتفاق الموقع مع العراق والذي يتيح لشركة بوتاس الحكومية التركية الحصول على امدادات من النفط العراقي عبر هذا الانبوب، والأرباح التي تحققها من خلال عائدات بيع نفط كردستان التي تودع في مصارف تركية قبل ان تنقل الى الاكراد بحسب اتفاق مبرم بين انقرة واربيل، وأيضاً إغلاق أنبوب النفط يعني خسارة تركيا للقروض التي قدمتها لأربيل والتي تم من خلالها إنشاء شركة انضمت حديثا للشركات التي تأخذ النفط الخام عبر ميناء جيهان، وسيواجه أيضاً بتحفظ روسي بعد إبرام (روس نفط) اتفاقيات مع حكومة أقليم كردستان العراق على هامش منتدى بطرسبرغ الدولي في حزيران الماضي والتي أتت استكمالاً لمذكرات تفاهم وقعت بين الجانبين في شباط على هامش مؤتمر "أسبوع البترول الدولي" في لندن، حول تطوير أنبوب النفط وإنشاء أنبوب لنقل الغاز من الأقليم إلى تركيا، ما يفقد التهديدات التركية واقعيتها والقدرة على تنفيذها.
كل هذا بالتالي يترك الحكومة المركزية في بغداد وحيدة في خيارها العسكري غير المحتمل مع مواجهتها مسبقاً أخطر وأشرس التنظيمات الإرهابية العابرة للقارات (داعش) ودور البشمركة في هذه المعارك المصيرية، لتتفرد الحكومة الإسرائيلية بالصوت الوحيد المؤيد أقليمياً ودولياً لهذا الانفصال لغاية ضمنية أخبث من تقسيم العراق ذاتها، وهي تشجيع الأكراد في الضفة الشرقية لنهر الفرات نحو الاستقلال بعيداً عن دمشق، مايؤمن لإسرائيل الجار الأمين لطموحاتها بإسرائيل العظمى من الفرات إلى النيل بكل تداعيات هذا المشروع وأدواته.
أما على الصعيد الدولي فموقف الاتحاد الأوروبي ناتج عن الأطماع الاقتصادية عن طريق الانخراض بمشاريع إعادة الإعمار في المنطقة على غرار مشروع مارشال الذي أعاد إعمار أوروبا، وهو مايتطلب استقراراً نسبياً وضمانات أمنية وانحسار في مساحات البقع الملتهبة في الأقليم والذي يشكل الانفصال زيادة كبيرة بها، وبالنسبة لواشنطن فالرفض لم يكن على فكرة أو رغبة الانفصال وإنما على التوقيت الذي تعتبره توقيتاً حرجاً وغير مناسباً بالنسبة لمشروعها في المنطقة، فهي تحاول إدارة الملف الكردي ليكون ملفاً خلافياً بين دول الأقليم وبالأخص في سورية، بحيث يكون أولوية أمنية لدول دون أخرى ووسيلة لجذب تركيا من الانجراف نحو المحور الأوراسي، وتطويق إيران وإضعاف سورية فيما بعد، ولكن الاستفتاء في هذا الوقت المبكر سيدفع دول الأقليم إلى التعاون والتكاتف مايؤدي إلى عكس النتائج التي تسعى واشنطن لتحقيقها في الشرق الأوسط، وهو ماشهدته الزيارات الإيرانية التركية الثنائية على أعلى المستويات لتنسيق ردود الفعل حول قضية الانفصال، والتي تشكل ملفاً إضافياً مهماً بالإضافة إلى الملف السوري الذي تلعب فيه كل من أنقرة وطهران  دوراً محورياً، ما يعني تفاهمات أعمق ورؤية مشتركة جديدة قد تتشكل للأمن الأقليمي لا تلعب فيه واشنطن دوراً يذكر.
كل هذه المعطيات تفيد بإن البرزاني كان يدرك تبعات وأبعاد هذه الخطوة التي خضعت لحسابات دقيقة قبل إطلاقها، ولكن مالا يدركه البرزاني أن الانفصال ليس حلاً ولن يؤمن له الكثير من الوقت في السلطة، فصحيح أن تبعات الانفصال لن تكون على مستوى كارثي، ولكنها أيضاً لن تكون بسلاسة ومرونة تأمن من خلالها أربيل احتياجات قيام الدولة فوقف حركة الطيران إلى أربيل وإغلاق المعابر البرية وزيادة تكلفة نقل النفط عبر تركيا من خلال فرض الحكومة التركية أجور أو ضرائب جديدة عالية على أقل تقدير، كإجراء مضاد على أقل تقدير، سيجعل من الوضع الاقتصادي المتردي لإقليم كردستان واقعاً مريراً، وسيدفع بالأكراد بعد الصحوة من نشوة الاستفتاء إلى الاضطراب الشديد والذي قد يطيح بالحزب الحاكم كلياً وربما أيضاً التراجع عن كل العملية، وهو الدافع الرئيس للاستعجال بالانتخابات الرئاسية قبل فوات الأوان، أي أن السيد مسعود البرزاني يقامر كلياً بالأقليم وبأكراد العراق على مبدأ رابح كل شيء أو خاسر كل شيء، ومثل هكذا ألعاب في السياسة وعلى هكذا مستويات غالباً ما تودي بصاحبها ومن معه إلى الدرك الأسفل من التاريخ.