المساحة العامة الفعلية تنطلق من الجزائر
استقالة الرئيس الجزائري عبد العزيز بو تفليقة قبل 26 يوماً من انتهاء ولايته الرابعة، هي «حدثٌ تاريخي» يعكس بدء مشاركة المواطنين العرب انطلاقاً من وطن المليون شهيد في إنتاج السلطات السياسية في بلدانهم.
أهمية «هذا الحدث» أنه عكس نتيجة صراع بين شبح بو تفليقة والطبقة الحاكمة الفعلية المختبئة خلفه، وبين الشارع الشعبي الجزائري المستمر في تنظيم تظاهرات ضخمة، منذ شهر تقريباً، ترفض التجديد للرئيس لولاية خامسة، «مباشرة أو مداورة».. وتصرّ على إقصاء كامل نظامه السياسي.
لقد نجح هذا التحرك الشعبي في كشف طبقة سياسية تحكم الجزائر فعلياً وتنهب إمكاناتها الاقتصادية وتستنزفها من دون أي مساءلة، ومنذ 2013 على الأقل. وهذا هو التاريخ الذي أصيب فيه الرئيس بجلطة في دماغه، أفقدته الوعي بشكل شبه دائم وأجلسته على «كرسي متنقل» طيلة السبع سنوات الفائتة، ممارساً سلطة وهمية بعينين زائفتين، لا تميزان بين الذكر والأنثى مع يدين مرتعشتين لا يستطيع تثبيتهما او التلويح المتماسك بهما ونزوع الى تقبيل كل ما تقع عيناه عليه…
كان واضحاً أن الرجل بات «رهينة رئاسية» لشريحة قوية من السياسيين والعسكريين ورجال الأعمال وشقيقيه «السعيد والناصر» الكثيري الفساد..
هؤلاء جميعاً نجحوا في إفقار الجزائر بسرقة مواردها من النفط والغاز، مستنزفين موازنتها والاحتياطي النقدي للبلاد ونحو مئتي مليار دولار الى ستين ملياراً فقط .. حائلين دون بناء مصادر إنتاج اقتصادي متعدد يخفف من هجرة الشباب، ويؤسس لمستقبل راسخ «للبلاد»، كما يقول الجزائريون.
استفادت هذه الطبقة من المآسي التي تسببت بها حرب كبيرة في تسعينيات القرن الماضي ولمدة عقد تقريباً بين الدولة ومجموعات إرهابية كبيرة وسلالة القاعدة، نزحت إليها بعد سقوط القاعدة في افغانستان، واستوطنت الجزائر الريفية بآلاف المقاتلين والشعارات الإسلامية. وشنّت معارك مفتوحة ومتواصلة على الدولة في أعنف مظاهر قتل وسفك لم تعرف مثلها الجزائر منذ استقلالها عن الاحتلال الفرنسي في الستينيات.
لقد بقيت هذه المرحلة الدموية تثير هلع الجزائريين وتعرض عليهم التمسك بالدولة على «علاَّتها» والإذعان لمفاسدها حرصاً على الاستقرار الوطني، خصوصاً في مرحلة انفجار ما أسمي «بالربيع العربي» في تونس وليبيا ومصر المجاورة والمشرق العربي.
لقد استفادت الطبقة الحاكمة بشكل فعلي من هذه الاوضاع فطفت الى حدود تحويل الجزائر بلداً مديناً، يدفع بأبنائه الى الهجرة..
لكن اقتراب ولاية بوتفليقة الرابعة من نهايتها واصرار «الفئة الحاكمة» على التجديد له لولاية خامسة تنتهي في 2025، أرعب الجزائريين المتأكدين من أن بوتفليقة شخصياً لا علاقة له بالترشيح والتجديد.. فالرجل عاجز جسدياً وذهنياً.. ولم يعد سوى أداة ليس لها مشاعر ويستغلها الفاسدون السياسيون والعسكريون في «البلاد»…
لذلك اندفعت الفئات المثقفة الى الشارع في تظاهرات وازنة طالبت بإقالة كامل النظام السياسي تحت شعار رفض التجديد لبوتفليقة وانضمت اليها فئات العاطلين عن العمل وأبناء الأرياف في حركة رفض عامة لا تزال تتوسّع لتشمل المجتمع بكامله.
أما أهمية هؤلاء المتظاهرين فتتجسد بعدم وقوعهم فريسة قوى دينية أو عرقية، فكما رفضوا «الانضمام الأخواني» إليهم، رفضوا أيضاً السماح بأي كلام عن خلاف بين عرب وأمازيغ بربر بمحاولات لإثارة خلافات عرقية، كشفت الحديث عنها محطات التلفزة الأوروبية، خصوصاً الفرنسية منها المتخصصة تاريخياً بالتنوع الجزائري.
هناك اهميات إضافية للحراك الجزائري تجلت في رفضه لأنصاف الحلول التي ذهبت في اتجاه كسب وقت إضافي لمصلحة قوى سياسية وعسكرية حاول التنصل من علاقاتها بمرحلة بوتفليقة وقدمت نفسها بديلاً مؤقتاً مستعداً لتنظيم انتخابات في مراحل يحددها الدستور الذي تحوَّل وبقدرة قادر من عجينة يستطيع السياسيون تغيير مواردها في أي وقت وحسب مصالحهم الى آلية خالدة كأرز لبنان.
بالاستنتاج، فإنّ هذا الحراك غير طائفي لا يستند إلى مذهب أو ملة على حساب المذاهب الأخرى.. ولا يمثل جهة قومية تحاول أن تطغى على أثنية ثانية عرب وبربر . ويقوده مثقفون من فئات الأطباء والمحامين والقضاة وطلاب الجامعات وابناء الطبقة الوسطى وسط تضامن واضح من الشرائح الفقيرة وابناء الجيش والامن من ذوي الرتب العادية.
للإنارة على قوة هذا الحراك، يكفي تخلّي معظم القوى السياسية عن «نظام بوتفليقة» وتبرئهم من مرحلته وهم الذين يشكلون جزءاً أساسياً منه.. واضطرار قيادة الجيش الى تبني واحد من حالتين: الصدام مع الشارع فيما نماذج ليبيا وتونس حاضرة أمام أعينهم وذاكرتهم بمآسيها ونكباتها، أو محاولة استيعاب الشارع وفرض استقالة تشبه «الإقالة» على بوتفليقة في محاولة لامتصاص غضب الشارع وإعادة بناء «النظام» انما باسماء جديدة.
عند هذه النقطة الاساسية، من المنتظر أن يندلع حراك جديد عنوانه رفض الحلول الوسطى وإقالة النظام بكامله بمؤسساته ودستوره مع الدعوة إلى إنتاج نظام جديد بانتخابات سريعة يرعاها المجلس الدستوري والجيش وممثلون عن الحراك الشعبي.
وهذا هو الإطار الذي تتجه إليه الأمور في محاولة واضحة لمنع إنتاج نظام يقوده رئيس الأركان الفريق قايد صالح فتنتقل الجزائر من حكم بوتفليقة الوهمي الى الحكم بواسطة انقلاب عسكري «سري».
إن أهمية هذا الحراك تبدأ من استعادته «وطنية» الشارع الجزائري بعيداً من الطائفية والعرقية والقبلية والمذهبية، بما يشكل «مساحة عامة فعلية» كحال البلدان المتطورة التي تحظى بمساحات عامة، يعتبر علم الاجتماع انها «موقع افتراضي» بين الدولة والمجتمع، تؤدي فيه المؤسسات الشعبية أحزاب، نقابات، إعلام دور المطالب بمصالح الناس وتتلاقى مع مؤسسات الدولة في حركة حوار، تعبِّر عن نفسها في انتاج قرارات لمصلحة المجتمع.
وهذا ما ينقص العالم العربي التي قضت دوله على المساحة العامة الافتراضية، فمنعت الأحزاب او خنقتها وأممت الإعلام وحولت النقابات الى ابواق لتأييد أنظمتها، والجيش والأمن لقمع المعترضين على هذا السياق، أليس هذا ما يحدث في مصر وليبيا وتونس والعراق والسودان.
بانتظار نتائج الصراع في بلد المليون شهيد يمكن التفاؤل ببدء ولادة «عصر الساحات العامة» الافتراضية بما ينقل الدول العربية من القرون الوسطى الى العصر الحالي، بمحاولات متكررة قد يفشل معظمها.. لكن نجاح تجربة واحدة منها، قد تكون كافية للتأسيس للعصر العربي الجديد.