العلاقة الروسية الاسرائيلية .. تقارب ضمن أطر استراتيجية

19.05.2020

ضمن النظريات المتعلقة بتأمين العمق الاستراتيجي، تسعى اسرائيل إلى انشاء شبكة تحالفات إقليمية غير معلنة، تضمن بها الدخول إلى صلب الحرب الوقائية للدفاع عن أمنها القومي، فضلا عن نقل المعركة إلى خارج الحدود الاسرائيلية، مع الأخذ بعين الاعتبار انشاء مناطق آمنة تُشكل عائقاً عسكرياً في أي حرب مستقبلية، والاعتماد على جُملة من الإجراءات الدفاعية التي يتطلب تحقيقها تنفيذ هجوم استباقي لتحقيق نصر سريع؛ لكن بروز العديد من المتغيرات الإقليمية لا سيما الحرب على سوريا، واقتراب الدولة السورية ومحورها المقاوم من حسم هذه الحرب، والانتقال من الدفاع إلى الهجوم، باتت اسرائيل في عين العاصفة السورية، ما شكل تهديداً حقيقياً للوجود الاسرائيلي في المنطقة، وعليه تبدلت الاستراتيجية الاسرائيلية وانتقلت من مرحلة الهجوم الاستباقي وفق نظريات نقل الحرب إلى خارج الحدود، إلى مرحلة الدفاع ومحاولة استجداء الحلفاء المشتركين، لبلورة استراتيجية تضمن الحد الأدنى من الأمن الإسرائيلي في الداخل والمحيط، فـ الحرب على سوريا وتداعياتها لم تكن كما تشتهي اسرائيل، بل على العكس، حيث أن تداعيات هذه الحرب ومنعكساتها أدت إلى بروز قطب روسي يوازي في قوته السياسية والعسكرية القطب الأمريكي، فضلا عن تعاظم قوة محور المقاومة من إيران إلى العراق مرورا بـ سوريا ووصولاً إلى حزب الله.

هنا وجدت اسرائيل نفسها في مرحلة انعدام الخيارات، لتبدأ بذلك فصلاً سياسياً وعسكرياً جديداً، لكن بالتنسيق مع روسيا الحليف القوي للدولة السورية، من أجل الوصول إلى صيغة تبدد القلق الاسرائيلي جراء الانتصار السوري والتواجد لإيراني في سوريا.

**التصعيد الاسرائيلي في السياسية
شهدت العلاقات بين روسيا واسرائيل تقارباً وتنسيقاً عال المستوى، وتحديداً في القضايا المتعلقة بالشأن السوري، ترجمته الزيارات المكثفة لـ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى موسكو، لكن عُقب اسقاط اسرائيل للطائرة الروسية قبالة السواحل السورية في أيلول من العام ألفين و ثمانية عشر، شهدت العلاقات بين البلدين توتراً متنامياً وصل إلى حد القطيعة السياسية والعسكرية، ليعود التواصل بين البلدين لـ ضرورة التطورات التي شهدها الشأن السوري، والتي تستدعي تدخلاً روسياً يكون ناظماً للحماقات الاسرائيلية في سوريا، فقد جاءت الزيارة الأخيرة لـ نتنياهو إلى موسكو، لـ تعكس عودة المياه إلى مجاريها، لكن مع عدم المساس بما تم تحقيقه سورياً، حيث أن ساحة التفاعلات في الحرب على سوريا، عكست مؤخراً ضرورات اسرائيلية لابد من معالجتها، فـ الحضور الإيراني في سوريا وما يُشكله من قلق لـ اسرائيل، إضافة إلى تداعيات القرار الأمريكي بالانسحاب من سوريا، ثم تعديل صيغة الانسحاب بعد ضغط اقليمي ودولي على إدارة ترامب، مع تصور اسرائيلي بضرورة ربط الانسحاب الأمريكي من سوريا مع الانسحاب الايراني، كل هذه المعطيات فرضت على اسرائيل ممارسة ضغط سياسي تُجاه موسكو حليف دمشق، من أجل العمل سويةً وتفعيل الرؤى التي نسجتها اسرائيل، خاصة تلك المتعلقة بضرورة إخراج الايراني من سوريا، أو التغاضي الروسي عن الاعتداءات الاسرائيلية ضد القواعد السورية والايرانية، مع تحييد منظومات S-300.

**الوهم الاسرائيلي و ضرورة البناء عليه.
إضافة إلى ما سبق من ضرورات أنتجتها تداعيات الانتصار السوري، والعمل الاسرائيلي المتعلق باحتواء نتائج تعاظم قوة محور المقاومة، برز وهم اسرائيلي قوامه حدوث خلاف استراتيجي بين روسيا وايران، وتضارب للمصالح في سوريا، وعليه بات هذا المتغير الوهمي ضمن الرؤي الاستراتيجية لـ اسرائيل ولابد من استغلاله والعمل عليه، بل وتعميقه، حيث أنه ووفق النظرة الاسرائيلية ومع اقتراب الحرب السورية من نهايتها، لا موجب للتعاون بين روسيا وايران، بل على العكس، فقد سوقت اسرائيل وساستها ومراكز أبحاثها نظريات جديدة تعتمد على الزج بالمتغيرات الدولية والاقليمية ضمن أطر تتخذ من النفوذ والسيطرة منهجاً، بُغية تكريس نظرية "إيران فوبيا"، مع إيصال رسائل مفادها أن النفوذ الايراني في سوريا والمنطقة قد يُشكل عائقاً أمام التفوق الروسي، وبهذا تتمكن من زرع اسفين بين العلاقات الروسية الإيرانية، كما اتخذت اسرائيل جانباً أخر متعلق في سياق الاستراتيجية الروسية في سوريا، والبناء على التميز الروسي في القدرة الذكية على التحكم بالمتغيرات الدولية و الاقليمية، والسياسة الروسية القادرة على احتواء كافة الاطراف الفاعلة في الشأن السوري، الأمر الذي يمكن ترجمته بحسب الأهواء الاسرائيلية واقعاً يؤدي إلى التعاون المشترك على ما يُشكل تبديداً للهواجس الاسرائيلية.

**الواقع الذي لا تراه اسرائيل.
ضمن منظومة العلاقات الدولية والإقليمية، لا يوجد تقارباً بالمطلق، بمعنى أن تضارب المصالح واردٌ جداً، لكن الأهم ضمن هذه المنظومات هو شكل الاستراتيجية المعتمدة في تلك العلاقات، سورياً، لا شك بأن التقارب الإيراني الروسي ليس كاملا بمعناه السياسي، جاء هذا نتيجة تباين المصالح بين الطرفين ورؤية كل طرف للحل في سوريا، لكن العلاقة بين روسيا وايران تأخذ طابعاً استراتيجياً يُبحر بالبلدين بعيداً عن أي توتر أو اختلاف جوهري يكون سبباً في ضرب التنسيق بينهما، خاصة في الشأن السوري، وبالنظر إلى مقتضيات المصالح الجيوسياسية نجد أن روسيا وايران تجمعهما الكثير من العناوين الرئيسية الناظمة لمسار التطورات في الشرق الأوسط، وعليه فإن إيران لا ترى حرجاً في الحديث عن علاقات قوية ومتينه مع روسيا قوامها الثقة المتبادلة والمصالح الاستراتيجية المشتركة بعيدة المدى، وكذلك روسيا التي ترى أيضا أن التعاون مع ايران في الكثير من القضايا الإقليمية والدولية ضرورة تؤسس لمحور مناهض لمحور واشنطن التوسعي والتقسيمي، والعلاقة بين البلدين لا شك بأنها ستُشكل في جزئياتها مشهداً لمستقبل الشرق الأوسط، أما في الجانب الذي يربط البلدين في سوريا، فلا شك بأن هناك اختلاف لا يرقى إلى التصادم، لأن القاسم المشترك بين البلدين يعتمد اساساً على عدم العودة إلى الوراء، والتفريط بما تحقَّق من شراكة استراتيجية بين طهران وروسيا انطلاقًا من سوريا. هذا الواقع الذي لا تُدركه اسرائيل.

وعليه فإن أي محاولات إسرائيلية للاصطياد في الماء العكر، سيكون فاشلاً وبجدارة، و بالتالي فإن الزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى موسكو كما سابقتها، ضخ إعلامي وحرب نفسية بالتوازي مع تسريبات بعيدة عن الواقع الحقيقي، فالجانب الإيراني قلل من أهمية التقارب الروسي- الإسرائيلي، وأكدت إيران على متانة وصلابة العلاقات بين البلدين، مع استمرار حالة التنسيق الدائم في العديد من القضايا الإقليمية، واعتبرت إيران أن تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بشأن زيارته الأخيرة لروسيا ما هي إلا إحدى أشكال الحرب النفسية التي تشنها تل أبيب ضدها.
التنسيق والتقارب الروسي الاسرائيلي بشأن الملف السوري، لا يعني إطلاقاً تفكك العلاقة الروسية الايرانية، أو ابتعادها عن ضرورات التحالفات الاستراتيجية، فالعناوين الكبرى المشتركة بين موسكو وطهران لن تكون سبباً في بروز أي خلاف حاد، لكن ما يمكننا قوله، بأن الأهداف الروسية الايرانية في سورية واحدة، لكن تطبيقها واقعاً قد يأخذ أشكال وطرقٍ مختلفة بما يتناسب مع سياسية كِلا البلدين، لكن مع ضمان التعاون المشترك، فأكثر ما يميز التعاون الروسي الإيراني في سوريا أنه جاء على قاعدة أن لكل منهما مصالح مختلفة عن الآخر لكنها ليست متضاربة بشكل حادٍّ، وهذا مكَّن الطرفين من تحييد مصطلح التنافس بمعناه التصادمي وتغليب مصطلح الشراكة بوجهيها الاستراتيجي و الجيوسياسي.

كل هذه الوقائع دفعت كل من "عاموس يادلين" مدير مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي والرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكرية "أمان"، و"تسفي مغان" الباحث في المركز نفسه والسفير الإسرائيلي الأسبق في موسكو، إلى رصد الزيارة الأخير لـ نتنياهو إلى موسكو، والوقوف على وضع تفسيرات محتملة للمبادرة الروسية التي طرحت فكرة تشكيل لجنة للإشراف على إخراج القوات الأجنبية من سورية، فقد خَلص كل من يادلين و مغان إلى جُملة من التحليلات جاءت ضمن دراسة فندت الكثير من المعطيات التي سبقت وتبعت اللقاء الذي جمع بوتين ونتنياهو مؤخراً في موسكو، ومن ضمن ما جاء في الدراسة التي نشرها مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، أن موسكو معنية "تحديداً" بمواصلة التعاون مع إيران في سورية، وفي الوقت ذاته الابتعاد عن إسرائيل.

و أوضح مُعدا الدراسة أن هذا التفسير ينسجم مع التقديرات الأميركية والإسرائيلية بأن موسكو غير معنية وغير قادرة على إخراج القوات الإيرانية من سورية، مشيرين إلى أن موسكو لم تف حتى الآن بتعهدها بإبعاد القوات الإيرانية من منطقة الحدود في الجولان، رغم التزامها بذلك أمام إسرائيل.
ولفتت الدراسة إلى أن كلاً من روسيا وإيران ترتبطان بمصالح مركزية، على رأسها ضمان استقرار الدولة السورية، وإخراج القوات الأميركية من سورية، مشيرة إلى أنه من غير المستبعد أن تكون موسكو معنية بتشكيل اللجنة من أجل توفير مسار لإجبار إسرائيل على وقف عملياتها في سورية.

ويلفت معدا الدراسة إلى أن ما يدلل على أن روسيا معنية من خلال تشكيل اللجنة بتوفير ظروف تسمح بتواصل التعاون مع إيران، هو حقيقة أنها تطالب بإشراك سوريا في اللجنة، مع إدراكها أن فرص أن يوافق النظام على المشاركة في لجنة تشارك فيها إسرائيل تصل إلى الصفر.

ولم تستبعد الدراسة أن تطالب روسيا أثناء انعقاد اللجنة إسرائيل بالانسحاب من هضبة الجولان المحتل، على اعتبار أن وجودها هناك يمثل "طرفاً أجنبياً".

اللافت في هذه الدراسة، الخلاصة التي وصل إليها "عاموس يادلين" و "تسفي مغان" حول تبني المؤسسة الأمنية الروسية موقفاً متشدداً إزاء إسرائيل، وتتحفظ على تطوير التعاون معها.

في الخلاصة، يبدو واضحاً أن فرص استثمار نتنياهو في السياسة واللعب على حبال المتغيرات، لن يُحقق له أي مكسب على المستويين السياسي أو العسكري، وعليه فإن عجلة التنسيق بين سوريا وروسيا وإيران في المستويات كافة، تسير بوتيرة متسارعة، وستطحن الأحلام الإسرائيلية، أما اللقاء بين قادة جيوش سوريا وايران والعراق الذي عُقد في دمشق في 17 أذار / مارس 2019، فإن موسكو بثقلها السياسي والعسكري لم تكن بعيدة عنه، حيث ان التنسيق الرباعي ضرورة استراتيجية قصوى، خاصة مع ما يشهده الشرق الأوسط عامة، من متغيرات وتعقيدات تفرض حُكما التواصل بين الرباعي السوري والروسي والايراني والعراقي، من أجل تأطير السياسات الأمريكية التي لا تزال تتغذى على أحلام السطوة الامريكية وفرضيات النفوذ والتمدد.