الفوضى الخلاقة كأداة في الصراع الجيوبوليتيكي الدولي

27.01.2018

تستخدم هذه الأيام مجموعة متعددة من الوسائل لنشر ما يسمى "الفوضى الخلاقة" كأداة للصراع الجيوسياسي في المجتمعات والاقتصادات الوطنية. إن أولئك الذين يستخدمون هذا المفهوم يستخدمونه ويسعون لاستمراره فقط مع الدول التي تعارضهم.
يقول ستيفن مان، الخبير في السياسة الخارجية الأميركية، وهو أحد العاملين على إذكاء الفتن وإشعال نيران هذه الفوضى الخلاقة في العديد من دول العالم إنه يجب "زيادة مستوى الانتقادات شديدة اللهجة" التي تسبب الفوضى الخلاقة من أجل ضمان واستمرار المصالح الوطنية للولايات المتحدة الأمريكية.

ستيفن مان هو الشخصية الرئيسة التي تعمل على تطوير نظرية "الفوضى الخلاقة" كأداة لخدمة المصالح الوطنية للولايات المتحدة الأمريكية. ولد مان في عام 1951 وتخرج من كلية اوبرلين في عام 1973 بشهادة البكالوريوس في الفنون من ألمانيا، في عام 1974 حصل على درجة الماجستير في الأدب الألماني من جامعة كورنيل، وأصبح عضواً في السلك الدبلوماسي منذ عام 1976. حصل من معهد هاريمان للدراسات السوفيتية المتقدمة على منحة دراسية للحصول على شهادة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة كولومبيا في 1985- 1986وتخرج من جامعة الدفاع الوطني في واشنطن العاصمة.

بدأ حياته المهنية كموظف في السفارة الأمريكية في جامايكا، وفي وقت لاحق عمل في موسكو في مكتب مختص في وزارة الخارجية الأمريكية بقضايا الاتحاد السوفييتي، كما عمل في مركز عمليات وزارة الخارجية الأمريكية (مركز  مختص بالأزمات ويعمل على مدار 24 ساعة). شغل منصب القائم بأعمال رئيس البعثة في ميكرونيزيا (1986-1988) وفي منغوليا (1988) وفي أرمينيا (1992). أما بين عامي 1991 و 1992 فكان يعمل في وزارة الدفاع الأمريكية في القضايا التي تخص روسيا وأوروبا الشرقية. بين العامين 1992 و 1994 عين نائبا للسفير في سيريلانكا. انتقل للعمل في وزارة الخارجية الأمريكية كرئيس لمكتب الهند ونيبال وسيريلانكا. منذ عام 2001 أصبح الممثل الرئاسي الخاص لدول بحر قزوين كمتحدث خاص عن مصالح الطاقة الأمريكية في هذه المنطقة وعضو جماعات الضغط في مجموعة خط أنابيب باكو - تبليسي - جيهان لتصدير للنفط  من دون المرور بروسيا.
بعد تخرجه من جامعة الدفاع الوطني في عام 1992، كتب مان مقال بعنوان نظرية الفوضى الخلاقة والفكر الاستراتيجي (المجلد الثاني والعشرون، الخريف 1992، ص. 54-68)  طرح فيه الأفكار التالية:
- "يمكننا ان نتعلم الكثير إذا اعتبرنا أن الفوضى الخلاقة يمكن إعادة تنظيمها وتحويلها إلى فرصة، وأن نعتبر الاستقرار هدفاً وهمياً"
- " البيئة الدولية هي مثال ممتاز على النظام الفوضوي، الذي يحوي بداخله عوامله الذاتية لإنعاش الأزمات، وأداة تحليلية مفيدة، العالم محكوم بالفوضوية لأن اللاعبين السياسيين لديهم أهدافهم وقيمهم المختلفة."
- "كل من يعمل في هذا النظام السياسي الحساس ينشر طاقة صراع،...الأمر الذي يؤدي إلى تغيير ما في الوضع الراهن وبالتالي المشاركة في خلق حالة حرجة، وأي مخطط عمل سيجلب الأوضاع إلى الحالة الكارثية."
إن الفكر الذي يتدفق واضحاً من فرضيات السيد مان هو إيصال النظام إلى ما يسمى ب "الحالة الحرجة". ومن خلال الظروف الموضوعية للنظام سوف يكون هناك ظروفاً معينة لا يمكن تجنبها تدخل النظام في "الفوضى الخلاقة" و "التغيير". يضيف مان: أن التطور الأمريكي في مجال الاتصالات والنمو في إمكانيات التواصل على المستوى العالمي سيؤمن ويمكن من خلق فيروسات (بمعنى العدوى الايديولوجية) تملك خاصية الانتشار الذاتي وتنتشر بشكل فوضوي، وبالتالي سنستطيع من خلال ذلك الحفاظ على أمننا القومي. وأكثر من ذلك يقول مان "هذه هي الطريقة الوحيدة لتأسيس نظام عالمي طويل الأمد، وإذا لم نتمكن من تحقيق مثل هذا التغيير الأيديولوجي في العالم كله، فسيكون لدينا فترات متقطعة فقط من الهدوء بين التحولات الكارثية".إن ما يقصده مان بالنظام العالمي هو التحولات السياسية، لأنه في مقالته يتحدث فقط عن الفوضى الخلاقة، التي تشكل حسب رأيه، "الضمانة الأفضل للمصالح الوطنية للولايات المتحدة" طبعاً مع جعل الولايات المتحدة محفوظة من هذه الفوضى الخلاقة  تعيش في نظام تام ضمن عالم يعيش في الفوضى.

حسب "نظرية" تفكيك وتقسيم الدول الوطنية القائمة حالياً وحتى التأثير على الثقافات الوطنية وحتى على الحضارات الأخرى يمكن اعتماد الأساليب التالية:
-إعادة تشكيل إيديولوجيات جديدة لدى السكان المحليين.
-التأثير على القيم الوطنية السائدة واستبدالها بتلك التي تخدم المشروع الذي يتم العمل عليه.
-إغراق الأسواق بمواد جديدة وخاصة في أوساط النخبة.
-فقدان السيطرة على الاقتصاد ومحاولة تدميره.
-تشجيع الأعمال غير القانونية من قبل حركات ذات طابع عرقي أو ديني.
هذه الإجراءات متى بدأ تنفيذها تقود بالتالي إلى ما يسمى ب "الثورات الملونة".
إن نظرية "التحكم بالفوضى الخلاقة" تعتمد على إعادة تشكيل الوعي الجماهيري للناس والتحكم بوجهة نظرهم وحتى بالمؤثرات الروحية باستخدام وسائل حديثة مخادعة، إنه يرقى إلى عملية غسيل دماغ جماعية وهي جزء من العولمة التي تقضي على ثقافة التضامن وتستبدلها بعبادة المال، وهذه القوالب النمطية الاجتماعية-الداروينية تؤثر على دور الفرد في المجتمع فتتضائل قدرة الجماهير على المقاومة من خلال إضعاف قدرتها على التنظيم الذاتي.

ونظرا لآثار مثل هذه التكنولوجية، فإن الجهات الفاعلة في "الفوضى الخلاقة" تسعى إلى هدفين:
الحد من حجم السكان من خلال القضاء على أولئك الذين لم يتأقلموا مع مشروع النظام العالمي الجديد. الإصلاحات النيوليبرالية تحدث كارثة ديموغرافية عن طريق خفض معدلات المواليد وزيادة معدلات الوفيات. الثورة الجنسية، والدعاية لمذهب المتعة، والفردية، والنزعة الاستهلاكية تخفض معدلات المواليد. أفكار داروين الاجتماعية وعدم الاكتراث لمعاناة البشر تحرم الناس من إرادتهم في العيش وترفع معدل الوفيات. عدد كبير من الفقراء والمشردين يدخل في واقع آلية القتل الرحيم، لأن الناس في هذه الطبقات تموت بسرعة. ثم يأتي غيرهم ويحلون محلهم.

تتم مسألة تدمير الأمم والشعوب وفرض السيطرة عليها من قبل الشركات المتعددة الجنسيات، وعصابات الجريمة والمنظمات والمؤسسات الدولية، المسؤولة عن تقنيات الفوضى الخلاقة. هذه المهمة تجمع بين "القوة الناعمة" مع العدوان العسكري الهمجي (يوغوسلافيا والعراق وليبيا). وتسهل هذه العملية سيطرة هذه القوى على الموارد المالية، والعسكرية، والمعلوماتية في العالم.
ينبغي أن نلاحظ أن اقتصادات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تنمو ليس عن طريق زيادة الانتاج ولكن عن طريق التوزيع غير المتوازن للثروة بين الدول القوية والضعيفة. يتم ذلك عن طريق إضعاف الدول النامية (من خلال توريطها في فخ الديون)، والخصخصة، وشراء معظم المؤسسات والأصول  الوطنية، بما في ذلك الأفراد بحد ذاتهم.

تحت ضغط المؤسسات المالية، تصبح الدول الضعيفة أداة لهكذا نوع من العولمة عن طريق الخصخصة وخفض الإنفاق العام على الاحتياجات الاجتماعية أو النفقات على العلم والثقافة. وتنظم الدول أيضا هجرة العمالة غير القانونية مما يجعل أجور العمال أرخص بكثير الأمر الذي يحرمهم من حقوقهم. وهكذا، فإن هذه المهام تحرم الدول المستهدفة من قدرتها على العمل كعنصر فاعل في المجتمع الدولي، وهي وسيلة خفية من قبل الدول والمؤسسات الكبرى للقضاء على المنافسين الاقتصاديين. ومن أعراض فقدان السيادة هي عدم القدرة على إدراك وتفسير هكذا وضع، ولتجاوز هذا، يجب تأكيد الهوية الشخصية للفرد في الأمة، والقدرة على تنفيذ أفكار جريئة ومتقدمة.
وفي النتيجة
فإن الدول المستهدقة لم تعد تتمتع بالحكم الذاتي، ولا تملك استراتيجية للتنمية، ولا يمكنها توفير ظروف العيش الكريم لمواطنيها وضمان الحقوق الدستورية لهم.
- يلعب المسؤولون الفاسدون دورا رئيسيا في السيطرة على الاقتصاد والمجتمع.
- الطبقة الوسطى في طريقها إلى الزوال، حيث تصبح غير منظمة، ومبعدة.
- الأحزاب والحركات السياسية هي مجرد واجهات للجهات صاحبة النفوذ.
- الحركات الاجتماعية ليس لها تأثير فعلي على السياسة.
- الشعب مهمش ولديه مشاكل رئيسية في الهوية (عرقية، طائفية وقبلية).
دعونا نلقي نظرة على بعض الأمثلة من تطبيقات الفوضى الخلاقة التي تهدف لتقويض أسس الاستقلال الوطني.
1. إضعاف حوافز التطوير:
- تدمير المؤسسات السياسية من خلال زراعة عناصر للتأثير.
- التأثير عن طريق الفساد، وتعزيز الخضوع لرأس المال.
- البيروقراطية الحكومية.
- إقصاء المجتمع العلمي من التأثير على سياسات البلاد.
- تحرير آلية السوق.
2. حجب رد الفعل اللاإرادي في المجتمع:
- زيادة كتلة المنظمات الخاضعة للخارج.
- استخدام التكنولوجيات السياسية في الحملات الانتخابية.
- تحويل وسائل الإعلام إلى جهات فاعلة في السوق.
- تعزيز ثقافة غريزة القطيع.
3. تدمير الروابط الاجتماعية:
- تعزيز النزعة الفردية من خلال النيوليبرالية، والانحلال في المجتمع.
- تدمير العلاقات المجتمع.
- تدمير شبكات النقل.
- تشجيع الصراعات العرقية والدينية.
- تجزئة المجتمع إلى طبقات غنية وفقيرة، وصراع الأجيال.
4. الحد من القدرة على التأثير في الأحداث:
- استخدام تقنيات التلاعب في الحملات الانتخابية.
- تشجيع الأيديولوجيات الليبرالية الجديدة، مثل الفردية والانحلال.
- الترويج لعبادة المال ومنظومة القيم البدائية الفطرية.
- اغلاق وسائل الإعلام المستقلة.
- تشجيع الفساد والجريمة.
5. الحد من القدرة على مواصلة التنمية:
- تدمير العملية الثقافية والتعليمية.
- إضعاف الصناعة من خلال الخصخصة، والإفلاس، وتدمير نظام التدريب المهني.
- القضاء على ضوابط رأس المال.
- الاعتماد على الاقتراض من النظم المالية الدولية.
- تشجيع الاعتماد على الواردات.
- منع مشاركة الجهات الفاعلة في المجتمع في تنمية البلاد.
في الختام:
     تعتبر الولايات المتحدة حاليا اللاعب الرئيسي الذي يستخدم أدوات "الفوضى الخلاقة" بهدف السيطرة على بلد أو منطقة ومنعها من مواصلة تنميتها. "الفوضى الخلاقة" هي حقيقة الاستعمار الجديد والتي تحول الدول النامية إلى موارد ترفد الدول المتقدمة. ويستتبع اذلك علاقات غير متوازنة في اكتساب الملكيات التجارية.
     استخدام تقنيات "الفوضى الخلاقة" يتعارض مع المعايير الدولية في عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. وهذا يعني أن هناك أساسا لمنع ورقابة تقنيات "الفوضى الخلاقة" دوليا. على مدى العقود القليلة الماضية، كانت عدة دول في تسعى لضمان أمن المعلومات الدولي من خلال الاتفاقات القانونية الدولية، ويمكن الآن أيضا بدء إجراءات مماثلة فيما يتعلق بتكنولوجيات "الفوضى الخلاقة".
فلاديمير براف
نقلا عن موقع south front