صراع الجيوبوليتيك يزداد انفجاراً في المشرق والعرب كالعادة.. ثانويّون ومصفّقون!
تكشف حركة القتال المتوسّعة في الميادين العربيّة عن مشهدين متناقضين يتقابلان في وقت واحد على جغرافيا موحّدة بغرابة تثير الجنون!
المشهد الأوّل هو مسارعة كلّ من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وتركيا وإيران إلى الانتشار في مساحات كبيرة تبتدئ من أعالي اليمن، ولا تقف إلّا عند حدود بحر لبنان، وذلك لتعزيز هيمنتها في مراحل الحلّ السياسي. وتتحيّن إسرائيل الفرص لانتزاع دورٍ «استعرابي» يُنهي لها قضية فلسطين، مقابل دفاع شرس ومتين من جانب الدولة السورية وحلفائها، الذين يشكّل انتصارهم المتدحرج إجهاضاً للجيوبوليتيك الغربي.
أمّا مشهد التناقض الثاني، فتظهر به الأنظمة العربية مجرّد أدوات تهريجية خارج زمنها، يؤدّي قسم منها دور المتواطئ مع الغزاة الأجانب، ويتفرّج البعض الآخر على أحداث منطقته وكأنّه من كوكب آخر.
ويسجّل بعض المحلّلين تهوّراً حين يبحثون عن التشابه بين الأحداث الحاليّة وبين مرحلة الحرب العالمية الأولى، فقبل قرنٍ من الزمن خسرنا فلسطين والاسكندرون، وبقيت لنا «أشكال» دول عربية هي أشبه بمشيخات وتركات كان يمكن لها أن تتطوّر لولا مؤسّسيها الغربيين الذين حافظوا عليها بالقوّة كمجرّد أدوات سياسية من القرون الوسطى.
أمّا اليوم، فالدول العربية مهدّدة بالتحوّل إلى مئات «الكانتونات» التي يرتبط ولاؤها وتقسيمها بلعبة الصراع بين الجيوبوليتيك الدولي والإقليمي المسعور، ما قد يؤدّي إلى إنتاج «موزاييك» يقاتل بعضه بعضاً حتى نهاية التاريخ، أو إلى مرحلة وصول النفط والموارد الأخرى إلى مرحلة الاستنفاد، فلا يتبقّى إلّا «الإسلام» الذي يُراد تحويله من دين إلى أداة سياسيّة للسيطرة على مليار وأربعمئة مليون مسلم، وذلك لسببين الأول مجابهة الجيوبوليتيك الصيني والروسي بذرائع دينية، وإيران بحجج مذهبية خالصة، والسبب الثاني هو الإمساك بالمسلمين كمستهلكين أبديّين للصناعات الغربية، ما يتطلّب الإبقاء على الدول الإسلامية على درجة عالية من التخلّف والتبعية.
وبالتدرّج، فإنّ الجيوبوليتيك الأميركي هو أول من اقتحم المشهد العربي بعد 1990. حاول السيطرة بالحروب العسكرية المباشرة في أفغانستان والعراق وسورية واليمن وباكستان 2001 2010 ، وبأشكال غير ظاهرة في المنطقة العربية والعالم الإسلامي. ولمّا استثار الغزو الأميركي مقاومات عربية وإسلامية، استدارت واشنطن واتّجهت لتنفيذ هيمنتها الكاملة على المنطقة بالتلاعب بمكوّناتها الداخلية، الطائفية والمذهبية والقبليّة والإثنية والقومية، وفجّرت ما سُمّي زوراً «الربيع العربي». والهدف باتَ معروفاً ويتعلّق بتقسيم الدول لبناء «حائط صدّ» أمام الصعود الإيراني والجيوبوليتيكَين الروسي والصيني، وإنهاء القضية الفلسطينية، ومنع أي مكان للتطوّر العربي في منطقة الشرق الأوسط الاستراتيجية.
ولتركيا أيضاً جيوبوليتيك خاص، إنّما من خلال دور «المعلّم الأميركي» الذي أتاح لها بدايةً حقّ اللجوء إلى فدرالية الإخوان المسلمين، وكان المقصود خلق صدام بين الدول العربية و«الإخوان» فيتدمّر الاثنان معاً، وتتحطّم الجيوش. وفيما كان الطموح التركي يجري وراء «خلافة عثمانية جديدة»، كانت واشنطن تستبدل الإخوان بحركات إسلامية أكثر تطرّفاً، ومن خلال التسهيلات التركية أيضاً، فتحوّل الجيوبوليتيك التركي من مشروع فدرالية الإخوان إلى محاولات مباشرة لتدمير الدولتين العراقية والسورية، وإلحاق قسم من أراضيها بتركيا بذرائع عثمانية.
والواضح أنّ الدور التركي لم يتراجع عن طموحاته، بدليل أنّه استفاد من عودة روسيا عسكرياً إلى سورية، وتراجع أميركا نسبيّاً والهزائم التي مُنيت بها بعض القوى التكفيرية أمام الدولة السورية وحلفائها. استفادت أنقرة من هذه المتغيّرات لتجتاح الشمال السوري وتواصل وظيفة تدمير الدول العربية.
لجهة إيران، فقد نجحت منذ تسعينيات القرن الفائت ببناء جيوبوليتيك كردّ فعل على استهدافها إسرائيلياً وأميركياً، بالإضافة إلى محاولات القضاء على الحليف السوري والمقاومة وقضية فلسطين.
نجح الجيوبوليتيك الإيراني في بناء تفاعلات سياسية تتمتّع بوزن محترم من أفغانستان إلى باكستان والعراق واليمن، وصولاً إلى سورية ولبنان، ما عزّز من مناعة الدولة السورية وصلابة المقاومة واهتزاز وضع الإرهاب الوهابي الذي لا يزال يشكّل أداة التفتيت السياسي للدول العربية والإسلامية. والملاحظ أنّ هذا النجاح الجيوبوليتيك لإيران، جعل الدولة الأميركية تُصاب بغضب شديد عبّر عنه الرئيس ترامب بالدعوة إلى القضاء عليها، لأنّها الداعم الأساسي للإرهاب، على حدّ زعمه.
ولن ننسى الجيوبوليتيك الروسي الذي اعتبر أنّ نقل حدود بلاده إلى سورية عسكرياً مسألة حيوية للدفاع عن موسكو في القوقاز وأوكرانيا وآسيا الوسطى، ومنع توسّع إرهاب لن يفيد إلّا الأميركيين في لعبة تجاوزهم للقانون الدولي. وتمكّن هذا الجيوبوليتيك، متعاوناً مع الدولة السورية والإيرانيين والحلفاء في حزب الله والميليشيات الإقليمية، من منع انهيار الدولة الروسية وتثبيتها بديموغرافية ضخمة وجغرافيا متصلة وأساسية يصعب التلاعب بها.
وجاء التدخّل الروسي مقابل تراجع الإرهابيين وانكفاء الأميركيين وتحديد الدور التركي من عنجهيّة وشعور بالتفوّق، إلى مجرّد دور يحتاج للتنسيق مع روسيا للحصول على مكاسب نسبيّة لا تعادل ما بذلته أنقرة من جهود في دعم الإرهاب، عبر فتح حدودها بطول ألف كيلومتر لعبور صفقات الأسلحة والنفط والإرهابيين من كلّ اصقاع الأرض.
لقد انقسمت هذه الأنواع من الجيوبوليتيك إلى قسمين: «أميركي تركي» مقابل «روسي إيراني» على قاعدة المصالح المشتركة المؤقّتة، وتجب إضافة السعودية إلى المحور الأميركي ومعها قطر والأردن كدول داعمة ماديّاً وتسليحيّاً، ومصدّرة للإيديولوجيا الدينية الإرهابية.
ونتيجة لهزيمة المشروع السعودي التركي الإرهابي في غير منطقة سوريّة ويمنيّة وعراقيّة، فقد أعادت السعوديّة وتركيا وقطر والأردن بناء حلف جديد يستمدّ قوّته من الإرادة الأميركية الجديدة، وعلى أساس تحويل ودعم كلّ من «درع الفرات التركي» الذي يهاجم سورية متغطّياً بلبوس ما يسمّى الجيش السوري الحرّ المزعوم، وتجمّع العشائر العربية في الجنوب بغطاء أردني ووحدات سورية الديمقراطية الكردية المتحالفة مع الأميركيين، بالإضافة إلى وحدات أميركية تحتوي على قاذفات استراتيجية شبيهة بالقاذفات الروسيّة الموجودة في قواعد على طول الساحل السوري.
إنّها الحرب إذاً، تعدّ لها الإدارة الأميركية الجديدة ومعها حلفاؤها الأوروبيّون، من دون نسيان «إسرائيل» المختبئة في العباءات المذهّبة للسعوديّين والخليجيّين، تترقّب الفرصة للتدخّل العسكري إلى جانب التحالف التركي السعودي للقضاء على القضية الفلسطينية وإيران.
لذلك تتركّز اللعبة الأميركية السعودية الجديدة على العودة إلى الجيوبوليتيك الأميركي الأصلي الرامي إلى تقسيم سورية إلى كانتونات صغيرة، من بينها كانتون من دير الزور إلى أعالي الرقة، لمهمّة حصرية ووحيدة وهي منع إيران من الوصول إلى لبنان عبر الداخل السوري.
وابتدأت هذه اللعبة بالتساهل في موضوع تشكيل ثلاثة وفود للمعارضة في جنيف -4، على أن يتمّ تفجير المؤتمر لاحقاً بحجّة أنّ قرارات جنيف تلحظ البدء بانتقال سياسي، وفي هذا الوقت تستفيد المعارضة من أطنان من السلاح والتموين، وافقت الولايات المتحدة على أن ترسلها السعودية وقطر إلى الداخل السوري، إلى جانب آلاف الصواريخ المضادّة للطائرات، وآلاف غيرها مضادّة للآليات المدرّعة، ما يجعل من الهدنة الحاليّة فرصة لإعادة بناء معارضة واحدة مستعدّة لقتال الجيش السوري وإسقاط الطائرات الحربية.
في المقابل، تتبنّى تركيا والولايات المتحدة فكرة إنشاء مناطق آمنة بتمويل خليجي في المناطق التالية:
إدلب بنفوذ تركي.
الشمال السوري حتى حدود حلب بنفوذ تركي.
من الرقة حتى أعالي دير الزور جنوباً بإشراف أميركي.
شرق سورية للأكراد بإشراف أميركي.
من القنيطرة وجوارها حتى الحدود مع فلسطين المحتلّة وصولاً إلى مناطق الجنوب السوري برعاية أردنيّة ـ إسرائيليّة ـ أميركية.
وهنالك الدولة السوريّة الأم المضطرة إلى القتال ضدّ جيوبوليتيك الكانتونات الأميركي، ولا ننسى روسيا التي تجد نفسها مضطرة إلى العودة إلى ساحات القتال للدفاع عن دمشق، وبالتالي عن موسكو، وذلك لإحراز انتصارات جديدة تجعل متورّمي الرؤوس يعودون إلى رشدهم.
إنّها إذن حرب بين أصناف الجيوبوليتيك، ولن يتسامح محور المقاومة مع مثل هذا الشطط في التفكير، لأنّ مصير المنطقة يُرسَم اليوم في ميادين بلاد الشام. وبمقدار عمق التحالف الروسي السوري والإيراني مع حزب الله والأحزاب القومية والوطنية، فإنّ النتائج لن تكون إلّا إفهام القوى الغربية كلّها أنّ سورية هي جيوبوليتيك خاص بأهلها الذين يرسمون اليوم حدود المشرق العربي بالدماء والكفاح.
"البناء" اللبنانية