الفنّان الغزّاوي الفلسطيني ماهر ناجي صنع لنفسه مكانة بين أصوات الإنفجارات وأروقة الحرمان
حين التقينا، ماهر ناجي وأنا، منذ ما يقرب من عقود ثلاثة في الزمن، في مدينة سان بطرسبورغ بروسيا، وكان البلد حينذاك جزءا من الإتحاد السوفياتي، بل الجزء الرئيسي منه، ولم تكن همومنا الدراسية تشبه الهموم الحالية، في ما يختص بأمور الفن التشكيلي. كنت سبقته إلى هناك بسنوات من أجل دراسة الفن المعماري، ولا نقول الهندسة المعمارية، لكون الدراسة كانت تمّت في أكاديمية للفنون التطبيقية، وكان الرسم والتصوير مادتين أساسيتين، كما هي الحال في أكاديميات روسيا، التي تستند مناهجها إلى مقولة: من لا يحسن الرسم لن يكون في إمكانه أن يصبح فناناً، ولو في الحيز المعماري، أو في سواه.
ماهر ناجي هو إبن غزّة، القطاع الذي اكتسب شهرته إثر تعرّضه الدائم لفنون القمع وأدواته، التي مارستها في حقه السلطات الإسرائيلية، كما اكتسب شهرة مرادفة إستناداً إلى صمود سكانه في وجه قوة عسكرية عاتية لم توفّر أحداً في ممارساتها. كان من الطبيعي أن يعود ماهر ناجي إلى قطاعه بعد نهاية الدراسة، مصطحباً معه زوجته إيرينا، الفنانة الموهوبة، التي كانت "تنمّر" علينا في مادة الرسم، لكونها رسّامة حاذقة. كان عليّ، شخصياً، أن أذهب في إتجاه الغرب الأوروبي، طمعاً بمعارف زائدة، وتجنباً للغرق في أوحال الوطن: لبنان، الذي لم تكن أموره، حينذاك، مستوية على الصعيد السياسي والأمني، والإقتصادي حكماً، ولا تزال الحال على هذا المنوال حتى اللحظة، للأسف الشديد.
ذهب ماهر ناجي إلى غزّة، وانقطعت أخباره عني منذ السنوات الأولى من تسعينات القرن المنصرم، إذ لم يسعفني الحظ في إيجاد وسيلة للإتصال به. كنت أتساءل عن مصيره، خلال الحروب العديدة التي شُنّت على القطاع وما أدّت إليه، وعما إذا كان القصف الحاقد قد طاوله، وألحق به وبعائلته ضرراً، إلى أن شاء الـ"فايسبوك" أن ينقذنا، ويعيد الحياة إلى علاقتنا المقطوعة قسراً لما يزيد على عقدين من السنين (من قال إن الـ"فايسبوك" مضرّ للعلاقات الإنسانية، لكونه يحيلها على الحيز الإفتراضي؟). فاجأني إبتعاد ماهر عن العمارة، وإنصرافه إلى الفن التشكيلي. تبيّن لي أننا سلكنا الدرب ذاته من دون أن ندري، كأن القدر شاء أن يلعب لعبة مزدوجة في مكانين لا يبعدان كثيراً، لكن عوائق جمّة تفصل بينهما. فاجأني أكثر أن ماهر ناجي استطاع السير في درب التشكيل مسافة كافية كي تجعل منه فناناً محترفاً. لقد صنع الرجل نفسه بين أصوات الإنفجارات والدمار، وفي أروقة الحرمان، بعدما قُدّر له أن يبقى حياً في زاوية خطرة. "ما زلت حياً... ألف شكر للمصادفة السعيدة"، قال محمود درويش في "مديح الظل العالي".
حول المضمون والأسلوب
إذا كان إنصراف ماهر ناجي إلى التصوير يمثّل مفاجأة لمن عرفه في فترة سابقة – علماً أنه كان يمتلك الأسس والقواعد اللازمة لإتخاذ هذا القرار – فإن موضوعاته لم تحمل عنصر المفاجأة. إذ من الصعب أن يعيش المرء في وطن مسلوب، ضمن محيط عرف القهر وعايشه، من دون أن يلعب دوراً ما، ضمن ظروف وإمكانات تتراوح بين فرد وآخر، في ذلك الصراع الذي يبدو أنه لن ينتهي في وقت قريب. ما من شك في أن ماهر ناجي كان أفاد من التراث التشكيلي الفلسطيني المعاصر، خلال عملية إنصرافه إلى التصوير، هذا، مع العلم أن هذا التراث، وكما هو معروف، لا يمكن اعتباره عميقاً في الزمن، فقد بدأت إرهاصاته الأولى إثر نكبة العام 1948، لكون القيم المعرفية، القائمة في فلسطين قبل ذلك، لم تستطع الطلاق مع العلاقة التي ربطتها بطبيعة العلاقات الإجتماعية والتقاليد السائدة حينذاك، مع ما فرضته من تحريم الرسم والتصوير. شهدت الحياة التشكيلية بعد ذلك ظهور أسماء كبيرة كإسماعيل شمّوط، عميد التشكيليين الفلسطينيين البالغ الشهرة، ومصطفى الحلاّج، صاحب الأعمال الغرافيكية الباهرة، وتوفيق عبد العال وسواهم.
نقول إن ماهر ناجي كان أفاد من أعمال هؤلاء من دون أن يقع في فخ التقليد، إلاّ في بعض المواضع القليلة، المفهومة والمبررة، إذ من الصعب أن نخلق شيئاً من العدم، وهذا الحكم يطاول العديد من الفنانين المتأثرين، شاؤوا أم أبوا، بنتاج من سبقهم، وخصوصاً حين يتعلّق الأمر بقضية جامعة تشكّل هاجساً بعيداً في الزمن، ومتجدداً في الوقت نفسه، كالقضية الفلسطينية. تعددت المقاربات وتنوعت تجاه هذه القضية المركزية، واختار ماهر ناجي لنفسه مدخلاً يحيط بعناصر المسألة – المأساة، من دون أن تكون تلك المأساة، في وجهها المباشر، موضوعاً أساسياً، بل تبدو كأنها تختفي وراء أعماله، لتحل مكانها، كنقيض لمشاعر اليأس، مظاهر الفرح وبعض من الشعور الإحتفالي، المستمد من سلوكيات الناس اليومية أو الموسمية: جلسات السكان في أمكنتهم المعتادة ضمن أنماط حياتهم اليومية، لقاءاتهم في مناسبات معيّنة، مواسم الحصاد، الأعراس، الأحزان وسواها. في كل هذه المشاهد لم يهمل ماهر ناجي "الإكسسوارات" الضرورية كالأزياء التراثية وما يمت إليها بصلة، من دون أن يقع في مطب "الكيتش" الذي تعثّر به كثيرون، ظناً منهم أن إضفاء بعض ملامح التراث الشعبي على اللوحة، بطريقة شكلية، سيصنع منها عملاً فنياً جديراً بالتنويه الإطراء.
في التأليف والتقنيات
تنمّ أعمال ماهر ناجي عن معرفة وافية بأصول التأليف، وربما كانت هذه المسألة من موروث طرق التعليم الأكاديمية الروسية. أذكر جيداً كيفية تعاطي أساتذتنا مع هذه المهمة الجليلة، التي لم نكن نفقه كنهها في بداية الأمر، لكوننا لم نمر بفترة تحضيرية مدرسية حول أمور الفن، كما هي حال الطلاب الروس، القادمين إلى الجامعة مزودين معرفة وافية بما كنا نجهله، نحن الوافدين من بلاد العالم الثالث محمّلين تصورات خاطئة حول مفاهيم الفن في مجمله. لوحات ماهر ناجي، التي قلّما تخلو من العنصر البشري، وقلّما يكون هذا العنصر إفرادياً، بل ضمن مجموعة، لا تحتمل الإستخفاف بالتأليف كعنصر مؤسس، إذ إن فقدان التوازن فيها يؤدي إلى ضعف في الأساس، قد يؤدي إلى إنهيار المبنى "على من فيه" – لم نستطع أن نردع أنفسنا عن إستعارة العبارة المستعملة في مناسبات أخرى -، وهي صالحة، مبدئياً، في الفن التشكيلي. هكذا، قد نصادف في لوحة ماهر ناجي شخصية أساسية ضمن المجموعة، وربما شخصيتين، تنفردان في تكريس العمق التعبيري للعمل، وقد ينسحب هذا الأمر على الشخصيات كلها، حين يتطلب الأمر مقاربة من هذا النوع. وفي كل الأحوال يبقى الإنسجام سيد الموقف، وحارس اللوحة الأمين، ما يترك إنطباعاً مريحاً لدى المتلقّي، من دون أن ينتقص هذا الحكم من قدرة العمل الشعورية والتعبيرية.
إضافة إلى التأليف، طوّر ماهر ناجي تقنية تهدف إلى تقميش الصفحة التشكيلية في مطارح معينة، ما يضفي على العمل بعداً بصرياً واضحاً. إلى ذلك، وفي ما يختص بالخيارات اللونية، ينزع الفنان نحو أطياف لونية واحدة، كأنه يسعى إلى لحظة مونوكرومية تعتمد لوناً محدداً، مع ما يمكن أن يتناسل منه كالفاتح أو الكامد، أو ما يتوسطهما من أطياف. هذا المدخل الذي يبدو، للوهلة الأولى، أقرب إلى الإستسهال، إنما يتطلّب، في الواقع، دراية كافية بكيفية التعامل مع النمط المونوكرومي، وهذا الأمر يحسنه ماهر ناجي، وتشهد على ذلك أعماله التي شاركت في أكثر من تظاهرة فنية، ونالت إعجاب المتلقين نظراً لما تحمله من سحر الشرق المتوسطي من جهة، ومن إلتزام القضية الوطنية من جهة أخرى، وهو إلتزام استطاع الفنان أن يصوغه ضمن قلب جمالي أنيق.
نشرت للمرة الأولى في صحيفة "النهار"