هوية الاقتصاد السوري والنهج التنموي بين الليبيرالية والعدالة الاجتماعية
كان الحديث و الجدال عن الهوية الاقتصادية قبل الأزمة السورية المعقدة من باب التمني أو التنظير أو الحنين لتطبيق الأفكار و كان الجدال الأكبر بين مدرستي الإشتراكية ومضمونها الإنساني العائم و الرأسمالية و مضمونها المالي المغموس بعرق و دم الإنسان، ولكن التطورات الاقتصادية العاليمة و التحولات البنيوية الكونية أدت لإنقلابات جذرية برؤى وآراء البعض ليتحولوا جذرياً من متشددي الشيوعية والإشتراكية إلى منظري الليبرالية و التي ثبت أنهم لا يعرفوا معناها ومغزاها وكأن الجدال على هوية الاقتصاد السوري كان للأغلبية مبرمج وذو مدلول سياسي دعائي أكثر ما كان إيمان وغاية مطلبية، وكأن من كان يرفع المظلة إن غيمت في موسكو أصبح يحمل المنديل إن عطست واشنطن.
كانت بلا شك الخلفية السياسية للخطابات حتى الاقتصادية منها ملتصقة بالبنى الفكرية و بالمساعي الأمنية و التنموية وكأن التحالف الايديولوجي كفيل بتأمين الاحتياجات الاقتصادية للدولة و خاصة في المعسكر الإشتراكي و التي كانت تحصينات قطبيته للدول المنضوية لا تقتصر على المساهمة بالحماية الأمنية و العسكرية وإنما تجاوزته للحماية الاجتماعية عبر تطبيق النموذج الاقتصادي الإجتماعي الساعي للوصول لبنى إجتماعية غير متصادمة و شبه خالية من أمراض الفقر و البطالة و المديونية الخارجية و التبعية المعرقلة لأي تطور، ولكن نهاية الحرب الباردة و التحالفات الما ورائية لعالم يقدس المال و يحرر القيود لإنسيابه وفق آلية تفوقية واضحة للمعولمين الجدد قد أعطت الحرية للقواد الجدد لطمس أي رؤية اقتصادية أخرى ذات نتائج مقوية للهوية الوطنية و ذات بنى صلبة تحميها من الغزوات الدموية الارهابية من دول تتدعي محاربة الارهاب.
وكان ما كان بيوغسلافيا و العراق و ليبيا و الحرب القذرة على سورية وإن كان المدخل صراع بين هذه الرؤى و فرض تطبيق الرؤية ما بعد الليبرالية و تحطيم النتائج التنموية و كل ما نجم عنها من تنمية اقتصادية و اجتماعية و ثقافية وسياسية للوصول لدولة فاشلة محطمة، فحتى الالتفاف على إملاءاتهم و برامجهم ممنوع وعقوبته الاجتثاث التام و الأدوات و التضليلات جاهزة لعرقلة أي ممانعة اقتصادية و اجتماعية، وحتى في ظل هذه الظروف التآمرية استمرت أصوات المنقلبين و المنظرين كأداة إعلامية أو كأبواق تنظيرية للمناداة بما أطرته القوى المعولمة لسيطرة رأس المال المركز من برامج هدفها تقويض العدالة الاجتماعية و الحرية المنضبطة و المساواة و تحرير البلد من قيود و ألغام التبعية و القروض التوريطية.
و ليعود الجدال ما هي هوية الاقتصاد السوري بين قوى تتبنى الليبرالية كفكر أوتلقين و لكنها بعيدة عن الواقع ما قبل الأزمة و خلالها و ما بعدها، ما قبلها لأن ما كان يطبق كان عبارة عن نموذج للقلة تابع للمركز المتآمر على البلد بانت نتائجه فالليبرالية تعني الحرية بكل أنواعها ومنها الاقتصادية و بحاجة لبنى منضبطة وقوانين صارمة و لعلاقات اقتصادية معينة و هو ما لم يتوفر من خلال سياسات أدت لتصادمية بين الرأس المال ذاته و بين رأس المال و الحكومة وهو ما نجم عنه تصدع بنيوي و صراعات استثمرت، فأي ليبرالية في ظل الاحتكار وأي احتكار، احتكار القلة، وخلال الأزمة و في ظل العقوبات و الحصارات ومن بديهيات إدارة الآزمات أن تصبح الحكومة هي الآمر العام لأي سياسة اقتصادية أو اجتماعية أو حتى ثقافية و سياسية وأن يكون هناك حكومة أزمة و أن الليبرالية أو نهجها هو استمرار القتل للبلد المأزوم وما بعد الأزمات و انعكاساتها بكافة النواحي وخاصة الاجتماعية تصبح البرامج أكثر خصوصية و تصبح هناك أولويات لعلاج و الإحاطة بالكثير من النتائج الاجتماعية نحو عدالة اجتماعية بما تحويه البلد من مقدرات وإمكانات تعيد جزء من اللحمة باتجاه التحصين الاجتماعي وترميم الجراح و هذا العنوان تسخر له كافة الجهود و الإمكانات.
و قد يحاول دعاة الليبرالية أو النيو ليبرالية الضغط على الدولة من أجل فرض نماذج تزيد الجرح و تعرقل أي تنمية قادمة مستغلة محدودية الإمكانات و الموارد في سعي لفرض أي نموذج اقتصادي يضاعف أرباحهم غير مهتمين بمنعكساتها على البلد و الشعب، وكلنا يعلم ما جلبته هذه السياسات الرأسمالية بمعزل عن تناقضاتها وشموليتها الداخلية أي اتجاهها نحو رأس المال المركز و الشركات المعولمة المحتكرة لخدماتها عبر العالم بأكمله.
فالرأسمالية تتنوع وتتعد أشكالها حسب اختلاف الأزمنة والدول والمؤسسات والثقافات، وكانت الرأسمالية فى الأساس تركز على الاقتصاد الحقيقى أى الإنتاج والخدمات ـ إلا أن الأنشطة المالية فى الثلاثين سنة الماضية، توسعت لدرجة أزاحت فيها الإنتاج الحقيقى من مركزه كمحرك رئيسى للتراكم الرأسمالي، تلك هى فترة النيوليبرالية التى أدت إلى توسع فى المضاربة المالية والثروة الورقية على حساب الاستثمار الحقيقى فى الأصول المنتجة، وجاء الانهيار المالى فى 2007/2008 وما تلاه من ركود اقتصادي، ليكشف عورات هذه الأيدلوجية، وفى هذا السياق نفسه استسهل قطاع الأعمال الحقيقى تحقيق أرباح سريعة، من خلال الاندماجات والاستحواذات وإعادة الهيكلة، بدلا من التركيز على الإنتاج والخدمات، وانتهى الأمر بهذا القطاع أيضا، إلى تراكم مستويات عالية من الديون، بالإضافة إلى ذلك أوجدت برامج الخصخصة والتحرير المالى فيما سمى «الأسواق الناشئة» فرصا جديدة لتوسيع قاعدة النمو المالى المصرفي.
وبناء على ذلك كله لم يؤد انهيار قطاع التمويل العقارى فى الولايات المتحدة إلى تهديد بنوكها المحلية فقط، بل امتد هذا التهديد إلى البنوك والمؤسسات المالية الأخرى حول العالم، وبالذات فى أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية، التى شاهدت من قبل ـ خلال فترة التحرر الليبرالى مجموعة من أزمات فقاعات المضاربة فى المكسيك 1994 وجنوب شرق آسيا 1977 وروسيا 1998 والأرجنتين 2001..إلخ.
أدت الليبرالية الجديدة إلى شكل جديد للاقتصاد الرأسمالى الدولى يتصف بعدة خصائص:
(1) اندماج على مستوى العالم وتفكك داخل الأوطان.
(2) علاقة معقدة بين الرأسمال الأجنبى والدولة القومية.
(3) نهج فى التقشف المالى وفتح الأسواق الوطنية.
(4) توزيع جديد للعمل الدولى تسيطر عليه الشركات عابرة القارات اللاعب الرئيسى والقوى فى العولمة النيوليبرالية.
(5) ضعف قدرة النقابات على حماية حقوق العاملين وإحداث التوازن فى قطاع العمل.
(6) تغير فى دور صندوق النقد ليصبح منذ الثمانينيات من القرن الماضى دولة فوقية تضع شروط الهوية والمسارات الاقتصادية للدول.
(7) انكماش دور وحجم وتأثير الطبقات الوسطى الأكثر تضررا من النهج النيوليبرالى فى دول الشمال بصفة خاصة.
وقد انتقلت دول الجنوب فى هذا النمط الاقتصادى الجديد، وغابت فيها بالتالي العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وتشابكت مصالح النخب الجديدة لهذه الدول مع الدوائر العالمية للاستثمار والتجارة والمالية، وهكذا اختفت الدولة التنموية تحت ضغط الولايات المتحدة ومناصريها من دول ومؤسسات، واستبعدت استراتيجيات الاكتفاء الذاتي من الطعام بحجة الحصول على إيرادات من العملات الصعبة عن طريق تصدير الحاصلات الزراعية لتمويل النقص فى الغذاء، فالهدف الاستراتيجى هو «الدولة التنافسية» ـ منخفضة أجور العمالة ـ مقابل الدولة التنموية التى تقوم على التصنيع والخدمات ذات القيمة المضافة العالية، والتي تسعى إلى تحقيق الرفاهية لمعظم مواطنيها، ليست هذه هي الرأسمالية التى عرفها العالم في السابق، والتي أرست قواعد دولة الرفاهية في دول الشمال وليست هي أيضا هذا النموذج التنموي التي عرفته دول الجنوب بعد الاستقلال تحت مسمى رأسمالية الدولة.
وهكذا أتت نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة ـ والذي شاهد هيكلة الدول لمصلحة إعادة توزيع الدخل والثروة على الأغنياء ـ بأزمة كبرى أدت إلى اهتزاز أركان نموذج مجتمع السوق، مما دفع القيادات السياسية للدول الرأسمالية إلى التدخل السريع والكثيف بحزمات إنقاذ من الخزانة العامة، وعليه يمكن اعتبار الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التى يمر بها عالم اليوم هي فى جوهرها أزمة الليبرالية الجديدة، والتي ما هى إلا مشروع لسيطرة طبقة على حساب التنمية الحقيقية للشعوب.
فأي ليبرالية وأي إنسانية في ظل نهج تسعى أدواته لتكريس الأموال و لو بقتل الإنسان و السعي لقتل أي نفس من برامج العدالة الإجتماعية كانت الأساس لبناء البلدان الوطنية المحصنة و القابلة للاستمرارية و للاستقلالية، وأي نهج مقولب آخر.
في هكذا ظروف يبقى الاختيار الأكثر فعالية ليس لنهج مقولب وإنما بنهج ينطلق من قراءة الواقع بكل تفاصيله و ووضع برنامج وفق أولويات ممكنة التحقيق سعياً للعودة إلى تقوية البلد عبر برامج وسياسات تسعى لتحقيق أقصى ما يمكن من العدالة الاجتماعية وصولاً لعودة اللحمة و تقويض الفساد و أدوات التأزيم.
ويعتبر النهج التنموي والذي يشكل فيه الإنسان غاية التنمية وأداتها هو الأكثر احتياجا عبر برامج واضحة تعتمد على التعاون بين كافة قطاعات البلد لإستثمار الموارد و الإمكانات المتاحة محلياً و جذب وعودة المهاجرين و الأموال المأمونة وهذا النهج لا يقتصر على التنمية الاقتصادية و إنما كافة أنواع التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية و التعليمية و هكذا فالمشاركة و التشاركية بين العام و الخاص في المجالات كافة ضروري للإنطاق بهذا النهج وفق برامج واضحة وقيادة حكومية صريحة هادفة لأكبر عدالة ممكنة في ظل قوانيين صارمة و في ظل دور مؤسساتي قوي و ضابط فارض للقوانين على الجميع في ظل تبني ونوايا حسنة ومراقبة ومتابعة ومحاسبة و مراجعة , وإن كانت الأزمة كبيرة و صعبة ومعقدة وضمن الإمكانات أديرت بأساليب مميزة تضمنت بعض الأخطاء وخاصة بالمجالات التنموية عبر أخطاء بشرية ومنها ما نسمعه من تصريحات مسؤولين ليست محتوية ومقدرة لمسؤوليتهم تتضمن استفزازات و عبارات غير مسؤولة مستهزئة بالمواطن و زائدة لإنعدام الثقة المتراكمة , فتبني نهج تنموي وفق مركزية الحكومة فيالتخطيط و التوجيه و غلإدارة وفق مفهوم تشاركي وطني حقيقي وهذا لا يتناقض مع ما طلب به من لا مركزية مضبوطة للمحافظات وإنما الغاية أن يكون الغاية الكبرى للبرامج الوطن و المواطن ولا تكتب وتفرض من الخارج أو أدوتهم الداخلية ..العدالة الاجتماعية هي العنوان و الحصن الحصين و النهج التنموي هو الطريق لها .