هل يتدخّل الفاتيكان في لبنان؟
يشكل التدخل الخارجي في الشؤون اللبنانية معادلة تاريخية بدأت منذ تأسيسه قبل اثنتين وسبعين عاماً وأفرزت سياسة تقليدية تستند الى الدعمين الاقتصادي والسياسي مقابل الولاء.
لكنها تطورت مع نمو موازنات قوى داخلية جديدة، حتى أصبحت على شكل تقديم العون الاقتصادي مقابل تحييد لبنان وصولاً الى الدعم مقابل استعداء حزب الله وتحالفاته الإقليمية.
هذا حال كل البلدان الاوروبية والاميركية التي تدعم بلاد الارز، كذلك دول الخليج التي رفعت في الآونة الاخيرة من مستوى إسهاماتها المالية لمواجهة الحلف السوري – الإيراني وتحالفاته في حزب الله اللبناني والقوى الوطنية.
لكن المشكلة تطورت بعد انتصار التيار الوطني الحر وحزب الله وتحالفاتهما في القوى الوطنية في الانتخابات الأخيرة، فلم يعُد ممكناً الالتزام الرسمي اللبناني بالسياسات الخليجية الأميركية، ما ادى الى توكيل احزاب المستقبل والاشتراكي والكتائب والقوات مهمات الاستهداف الدائم لدور المقاومة ولحزب الله، مقابل تبني الدولة اللبنانية بشخصي رئيس الجمهورية ميشال عون ووزير خارجيتها السابق جبران باسيل مشروعية المقاومة في وجه “اسرائيل”، وها هي الحكومة الجديدة تتبنى في بيانها الوزاري الجديد معادلة الشعب والجيش والمقاومة، كاستمرار لنهج الحكومات السابقة وتطبيقاً لموازنات القوى الجديدة العاكسة لانتصارات الحزب منذ 1982 وحتى 2006 في لبنان ومشاركته في القضاء على الإرهاب في سورية وشرقي لبنان منذ 2013 وبشكل متواصل.
هذا ما استولد محاولات من جهات عربية خليجية وغربية أميركية بوقف الدعمين السياسي والاقتصادي للبنان لعرقلة دور حزب الله الداخلي والاقليمي، لكن هذه المساعي اصطدمت بأن الحزب لا يختنق بهذه السياسات، لانه ليس مرتبطاً بالنظام المصرفي الداخلي. واكتشفت أن ممارسة لعبة الخنق تؤدي الى فوضى كبيرة تنتج سقوطاً دراماتيكياً لحلفائها في المقاوم الاول.
لذلك ارتأى الاميركيون ان تطبيق الجانب اللبناني من صفقة القرن يتطلب نقل الخنق الى مستوى الابتزاز وذلك بالربط بين الاستقرار الاقتصادي اللبناني وبين القبول بالتسوية الأميركية للخلاف على الحدود البحرية اللبنانية مع الكيان المحتل والسماح بتوطين نحو خمسمئة الف فلسطيني في لبنان وعدم السماح للنازحين السوريين على أراضيه بالعودة الى بلادهم.
مقابل هذه الشروط، يسمح الاميركيون للخليج واوروبا ومؤتمرات سيدر وما شابهها بدعم لبنان في محنته الاقتصادية.
وهذا يؤكد ان الانهيار لم يتوقف قريباً لأن السياسة اللبنانية الحالية لن تقبل بكامل ما يريده الأميركيون لان التوطين والتمسك بالنازحين وتقديم كميات كبيرة من الغاز والسيادة اللبنانيتين لـ”اسرائيل” أمر مرفوض وبديله هو الاستثمار في الغاز وانشاء آليات تعاون مع روسيا والصين وقطر وفرنسا. وفتح الحدود مع سورية للوصول الى العراق والاردن والخليج ايضاً.
لكن هذه المعادلة الجديدة تحتاج الى علاقات ومعاهدات ووقت لا يتحمل طوله الوضع الاقتصادي المترنح في لبنان، بالاضافة الى الخلل في العلاقات الداخلية بين القوى السياسية اللبنانية التي تزداد تدهوراً وسوءاً لإصرار هذه القوى المحسوبة على النهج الخليجي – الأميركي على توتير الوضع الداخلي.
هذا التعقيد الداخلي، يجذب الأخطار البنيوية التي قد تذهب نحو تدمير الكيان السياسي وليس مجرد صراعات سياسية على حكومة أو حقائب أو وزارات.
لقد اصبح الوضع شديد الخطورة ويتطلب قوة سحرية تستطيع لجم الثور العنيف من قرنيه وهو الأميركي الذي يريد تطويع لبنان لخدمة صديقه الاسرائيلي من جهة وإعادة تأهيل القوى اللبنانية الموالية له من جهة ثانية والإمساك بالغاز اللبناني على مستويي الاستخراج والاستثمار من جهة ثالثة.
وهذا يؤدي برأي الأميركيين الى انهاء النفوذ الايراني ليس في لبنان فقط بل من العراق واليمن ايضاً، اما سورية فيعتمد الاميركيون على الدور الروسي فيها كمجهض لتطوّر التحالف السوري الايراني.
مَن هي تلك القوة السحرية التي تستطيع دعم لبنان بتجاوز المعوقات الأميركية؟
يحتل الفاتيكان راس لائحة الدول القادرة على اختراق الممنوعات الاميركية، ببركة إلهية من جهة وقدرته على جذب دول كاثوليكية الى منطقهِ غير المقاتل بالطبع وفي طليعتها فرنسا.
فهذه الدولة الروحية تعرف أن لبنان هو آخر موقع في العالم الإسلامي يلعب فيه مسيحيون مشرقيون دوراً سياسياً متكاملاً. وتعلم ايضاً ان خسارة هذه الاهمية السياسية مقابل صعود التطرف الإرهابي يعني تلقائياً تهجير آخر من تبقى من مسيحيين وربما اقليات من أديان أخرى من بلاد الشام وكامل المشرق العربي، علماً ان لا وجود لمسيحيين مغاربة في شمال أفريقيا.
ما هو واضح ان الكاردينال الراعي الموجود حالياً في الفاتيكان، يحمل معه الى نيافة البابا، هموم لبنان من “صفقة القرن” وما يعنيه التوطين والنزوح من تفجير للكيان السياسي اللبناني بما يؤكد أن الفاتيكان وبكركي لن يعملا لمصلحة جهة سياسية على حساب جهة اخرى، بل يذهبان نحو دعم كل المتنافسين الداخليين من خلال تحصين الكيان السياسي اللبناني. وهذا يعني موقفاً فاتيكانياً رافضاً لصفقة القرن بتداعياتها اللبنانية والفلسطينية أيضاً. ففلسطين أساساً هي أرض السيد المسيح والقدس قدسه وكذلك بيت لحم وصولاً الى قانا الجليل.
هناك إذاً مصلحة روحيّة للفاتيكان بالدفاع عن لبنان وفلسطين وسورية، بما يشكلونه من مسيحية مشرقية هي الأقدم من نوعها في العالم وتربط مع الإسلام عند اكثر من مفترق استراتيجي.
انما ما هي امكانات الفاتيكان بهذا الصدد؟
بعد تبليغ موقفه للادارة الاميركية التي تعرفه مسبقاً، فإنه عازم على استنهاض الدول الكاثوليكية والاوروبية لدعم لبنان اقتصادياً وسياسياً وتوجيه نفوذها لثني الأميركيين عن صفقة القرن عموماً ولبنان خصوصاً.
هنا تحتل فرنسا رأس لائحة البلدان القابلة للاستجابة لنداء الفاتيكان، لا سيما أنها تعتبر نفسها الجهة التي اخترعت لبنان الكبير منذ 1920 وتوّجته بدولة لبنان في 1943 واطلقت جمهوريته في 1948.
ولم يخرج من دائرة نفوذها إلا مع الصعود الاستعماري للدور الاميركي في الشرق بدءاً من خمسينيات القرن الماضي.
لذلك فإن بإمكان فرنسا بمباركة فاتيكانية، ان تستعجل وصول اموال مؤتمر سيدر الى بيروت، خصوصاً بعد اعلان بيان وزاري لبناني يحمل كل الخطوط التي وضعها مؤتمر سيدر لإقراض لبنان نحو 12 مليار دولار.
وبإمكان هذه التغطية الفاتيكانية تسهيل دوري روسيا والصين في التعاون مع لبنان على مستوى استثمار الغاز والتبادل الاقتصادي.
فإذا كانت روسيا ترسل خمسة ملايين سائح سنوياً الى تركيا، أفلا تستطيع تشجيع أعداد مماثلة للسياحة في لبنان.
للتوضيح الإضافي فإن هذه الأمور لن يذهب بها الفاتيكان نحو الصدام مع الاميركيين انما من خلال تأكيد العلاقة البنيوية لمركز الكاثوليكية الاول في العالم مع لبنان التاريخي الممثل بالمسيحية المشرقية.
لا بد اذاً من انتظار عودة الكاردينال الراعي للتأكد من اصرار الفاتيكان على دعم لبنان في وجه الخنق الاميركي، وفساد طبقة سياسية تخدمُ مشروع الخنق، بلا مبالاة تشبه حكام القسطنطينية الذين كانوا يتخاصمون فيما كان الغزاة العثمانيون يدكون أسوار مدينتهم ويحوّلونها عاصمة لإمبراطوريتهم الدموية.