هل ثمّة علاقة بين التحرك العسكري التركي والتوتر مع الأوروبيين؟
في الوقت الذي كان أردوغان يتوجه بالتهديد لأوروبا في مقابلته الأخيرة مع وكالة رويترز أن بلاده لن تنتظر على أبواب أوروبا للأبد، وأنه مستعدّ للانسحاب من محادثات الانضمام للاتحاد الأوروبي إذا ما استمر تصاعد الخوف من الإسلام والعداء من قبل بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، كانت محكمة استئناف يونانية تقضي برفض طلب أنقرة تسليمها ثلاثة من ثمانية ضباط أتراك فرّوا عبر الحدود إلى اليونان بعد محاولة الانقلاب.
لا يحتاج المراقب كثير جهد لإدراك التردّي المتدرج في العلاقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 تموز/يوليو الماضي. قيادات "العدالة والتنمية" أشارت مرّات عدّة إلى تورط أوروبي في الانقلاب. وبعضهم اتهم ألمانيا صراحة بمعرفة مسبقة بالانقلاب.
قبيل الاستفتاء التركي، كانت تصريحات أردوغان ضدّ دول أوروبية عديدة أشبه بتهيئة الأجواء الحرب معها. يمكن التّدليل على ذلك باتهامه ألمانيا وهولندا باستعادة النازية من جديد ضدّ تركيا والإسلام. كان الأوربيون متعاطفين مع خصوم أردوغان، رافضين لرغبته بتغيير النظام السياسي في بلاده. ولم تتوقف النخب الثقافية الأوروبية عن وسم أردوغان بالمتسلط، وحرّض بعضها المعارضة التركية على رفض نتيجة الاستفتاء. وقد وصل الأمر بأحد المفكّرين الفرنسيين الإيحاء بضرورة اغتيال أردوغان أو انزلاق تركيا إلى حرب أهلية إذا ما استمرّ بالحكم، وهو ما استدعى رداً أردوغانياً بالملاحقة القانونية للرجل.
الرفض الأوروبي لنتيجة الاستفتاء على استحياء يبدو شجّع حزب الشعب الجمهوري المعارض على التقدم بطعن إلى "المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان" في قرار قبول مظاريف الأصوات غير الممهورة بخاتم اللجنة العليا للانتخابات في الاستفتاء الذي أجري في 16 نيسان/أبريل الماضي على توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية، وذلك في أول تحرك خارجي على رفض مجلس الدولة التركي الثلاثاء الفائت النظر في طعن "الشعب الجمهوري" في نتيجة الاستفتاء، مبررا قراره بأن ذلك لا يقع في نطاق اختصاصه.
وفي الوقت الذي كان أردوغان يتوجه بالتهديد لأوروبا في مقابلته الأخيرة مع وكالة رويترز أن بلاده لن تنتظر على أبواب أوروبا للأبد، وأنه مستعدّ للانسحاب من محادثات الانضمام للاتحاد الأوروبي إذا ما استمر تصاعد الخوف من الإسلام والعداء من قبل بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، كانت محكمة استئناف يونانية تقضي برفض طلب أنقرة تسليمها ثلاثة من ثمانية ضباط أتراك فرّوا عبر الحدود إلى اليونان بعد محاولة الانقلاب.
وجهة نظر الأوروبيين أن أردوغان استغلّ المحاولة الانقلابية الفاشلة لتصفية حساباته مع خصومه السياسيين، ومارس "مكارثية" ممنهجة لإقصاء أي صوت معارض. ولم يعد هذا التصور مقتصرا على النخبة السياسية الأوروبية بل طال منظمات قانونية وإنسانية دولية. ففي تقريرها الدولي لعام 2017، الصادر هذا الأسبوع، قالت منظمة "مراسلون بلا حدود" إن تركيا أصبحت بمثابة أكبر سجن للإعلاميين على الصعيد العالمي بعد أن تراجعت البلاد أربع مراتب لتنحدر إلى المرتبة 155.
يأتي التقرير الدولي قبيل يومين فقط من بدء الضربات الجوية التركية في العراق وسوريا التي تزامنت مع اصدار تركيا أوامر اعتقال بحق ما يزيد عن ثلاثة آلاف ومئتي شخص في عموم البلاد للاشتباه بصلات لهم بمحاولة الانقلاب، في اطار حملة بلغ عدد المعتقلين فيها منذ المحاولة الانقلابية 47 ألف شخص وفق قانون الطوارئ الذي تمّ التمديد له إلى التاسع عشر من يوليو/تموز القادم.
فهل يمكن أن يأتي القصف الجوي التركي للأكراد الناشطين في "التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب" داخل الحدود العراقية والسورية خارج سياق التوتر المتصاعد بين تركيا وحلفائها في الناتو، لا سيما وأن واشنطن وعواصم غربية أخرى نفت التنسيق التركي معها، بل وأبدت قلقها من التصعيد التركي في وقت تنجح فيه الجهود الرامية لتطويق تنظيم داعش في الموصل والرقة؟ ما الذي يمكن فهمه من تعاقب توقيت القصف الجوي للأكراد في العراق وسوريا مع قرار البرلمان الأوروبي وضع تركيا تحت الرقابة السياسية في مشهد يرجعها إلى حال ما قبل عام 2005 حين بدأت عملية دراسة ملف تركيا في الاتحاد الأوروبي؟ ما الذي قصده أردوغان بقوله إن بلاده لن تقف طويلا على باب الاتحاد الأوروبي؟ هل هذا يعني أن تركيا ستبدأ بالتحرك بعيدا عن الرؤية المشتركة لحلف الناتو ومصالح أعضائه في الحرب على الإرهاب، أو في خنق روسيا اقتصاديا وسياسيا وقضم نفوذها في دول شرق أوروبا؟
لا يمكن الجزم بإجابات محددة على هذه الأسئلة المفتوحة إلاّ أن في الإمكان القول: التحرك العسكري التركي المستجدّ رسالة لدول الاتحاد الأوروبي وربما الولايات المتحدة أيضا أن الاستفتاء أسس لمرحلة جديدة في تركيا، وعليهم التعامل مع تركيا جديدة، وأن سياسة ليّ ذراع أردوغان لن تجدي نفعاً وقد تزيد في تعنته خاصة أن الأوروبيين وفي مقدمتهم ألمانيا يبدون تفهماً للمطالب الكردية، ويجهدون في التفرقة بين "العمال الكردستاني" وبين بقية المكوّنات الكردية السياسية حين يحثّون أنقرة على ضرورة عدم وضع كلّ الاكراد كلهم في سلّة واحدة إذا ما تعلق الأمر بالوجود السياسي لهم في كلّ من تركيا وسوريا والعراق.
في ظل هذا الاشتباك الخشن بين تركيا وحلفائها، ومع تباعد وجهات النظر، سيتطور التحرك العسكري التركي في دول الجوار العربي. وإذا كنّا شهدنا في المرحلة الماضية "درع الفرات" في الشمال السوري، فالأرجح أن نشهد صنوين له في قادم الأيام هما: "درع دجلة" في العراق، و"درع الشرقية" في الرقة السورية. وسيبدو التحرك العسكري التركي منفرداً في الساحتين العراقية والسورية، ومغرداً خارج منظومة الأحلاف الدولية كورقة ضغط تُمارَس ضدّ من يعترض على ما تراه تركيا عمقاً استراتيجياً أو مجالاً حيوياً لها.