العراق وعقدة المبادلة والمفاضلة ما بين الشراكات الإقليمية والدولية

02.01.2020

باتت الهيكلية الأمنية لمنطقة الشرق الأوسط تعاني من حالة تآكل وانهيار منتظم في مسلمات التوازن الاستراتيجي الأمني، حتى وصل بها الحال إلى (حافة الهواية)، أو ما يطلق عليه بعض المحللين الاستراتيجيين (المنحدر الزلق)، الأمر الذي يتطلب من واضعي السياسية الخارجية احترافية عالية في ادارة سلم المصالح الاستراتيجية في إطار موائمة الشراكات الاقليمية والدولية.

هناك مقولة في الفكر الجيوبولتيكي تقول (( إن موقع الدول الإقليمي هو من يحدد و يرسم الملامح العامة لشراكات الدولة الاستراتيجية، وبالتالي يفرض الوقع الجيوبولتيكي مآلاته على الاستراتيجية الخارجية))، ومن هذا المنطلق تتحدد ملامح المصالح الاستراتيجية للعراق في الجوار الاقليمي، الذي يتوسط الصراع الاقليمي والدولي والذي بدوره فرض على العراق تبويب مصالحه الاستراتيجية بما يتلاءم مع التفاعلات الاقليمية والدولية بتوجهات متوازنة مع جميع الاطراف، فأي توجه خارجي احادي الجانب قد يفرض على العراق آثار سلبية تصيب المنظومة ( السياسية، الامنية، الاقتصادية) وبالتالي لابد من القابعين على صنع السياسة الخارجية أن يدركوا حقيقة السياق الاستراتيجي لمبادلة المصالح المتضاربة في المنطقة.

تتمحور المفاضلة على أساس توظيف الفرصة للاختيار بمصلحة استراتيجية بديلة مقابل التنازل عن مصلحة ثانوية في إطار احترافي، ومن أسسها هي أن تكون عنصر استراتيجي لدى الآخرين، بمعنى آخر لابد من أن تكون الدولة ذات أهمية استراتيجية على الصعيد الإقليمي والعالمي، الأمر الذي يصنع منها مركز للتوازن لدى الجميع، لا نقصد هنا الأهمية الحتمية ( الجيوبولتيكية) فقط، وإنما الاهمية الاستراتيجية للنظام (السياسي، الاقتصادي، الأمني، الايدلوجي)  في الإطار الإقليمي والعالمي، أن مفهوم الشراكات الاستراتيجية هي نابعة من تطور حركية العلاقات الدولية في إطار النظرية (الإقليمية) خصوصا بعد انتهاء الحرب الباردة والتي أنتاحت مفهوم مبادلة المصالح بين الدول في دائرة الشراكات الاستراتيجية والتي تبتعد كلياً في جوهرها عن مفهوم المحاور والاحلاف التقليدية، حيث تخذ الشراكات الابعاد الاستراتيجية الشاملة (سياسية، امنية، اقتصادية، ايدلوجية) في اطار التعاون والمصالحة المشتركة بين اطرافها.

ان عملية المفاضلة والمبادلة ما بين الشراكات الاقليمية والدولية هي في غاية التعقيد، فهي عملية تقويمية  في الدرجة الاولى تقوم على اساس تحليل ابعاد معادلة المصلحة الاستراتيجية للدول، من خلال تبويب الاولويات الاستراتيجية حسب معدلة القوة الاستراتيجية للدولة، يستثنى من هذه العملية اي توجه غير عقلاني على حساب المصلحة والحاجة الوطنية للدولة، اذا هي ترتكز في دائرة النخبة الاستراتيجية  او ما يطلق عليهم منظرو المصالح الوطنية للدولة، فهي عملية محسوبة بعناية فائقة خصوصا في اوقات تستلزم وجود مبادلة صفرية ما بين الشراكات الاقليمية والدولية ( الازمات الاستراتيجية)، حيث تشكل عملية المفاضلة والمبادلة تحدي كبير في على عاتق صانع القرار الامر الذي يستلزم تحليل شامل للمشهد (الداخلي، الاقليمي، الدولي) ودفع المصالح الوطنية فوق اي اعتبارات اقليمية ودولية.

ان الشراكات الاستراتيجية للدولة هي بالتأكيد تشكل منبع قوة وتأثير متبادل، حيث غالباً ما تبنى هذه الشراكات على اساس العمق الجيوسياسي والجيواستراتيجي (المتبادل)، للدول انطلاقاً من عملية تدوير المصالح المشتركة، فهي لا يستدين بوجودها نحو التبعة الاحادية حسب ادارك بعض المحللين، انما هي انتاج تظافر للمصالح المشتركة ( امنية، سياسية، اقتصادية).
من هنا تبلج لنا ملامح دائرة الشراكات الاقليمية للعراق، فالعراق اليوم دولة تتوسط اقليم الشرق الاوسط (المضطرب) حيث تتصارع وتتصادم فيه استراتيجيات القوى الاقليمية والدولية، وهنا نتحدث التفاعلات الاقليمية،  فوجود اكثر من قوة اقليمية في المنطقة يشكل ارباك في ديناميكية معادلة التوازن الاستراتيجي في المنطقة، الامر الذي يشكل تحديد كبير في عملية مبادلة والانتخاب الشراكات الاستراتيجية بين القوى الاقليمية المتنافرة، ان صراع المصالح في المنطقة ينعكس بشكل سلبي على شكل  صياغة العراق لسياسته الاقليمية والدولية، فالناي بالذات عن اي صراع في المنطقة هو امر في غاية الصعوبة والتعقيد بسبب حجم الترابط الجيوسياسي ما بين العراق والقوى الإقليمية  المتضاربة في المنطقة.

ان كلاً من تركيا وايران والسعودية واسرائيل تمتلك قوة اقليمية فائضة في المنطقة، هذه القوى لها تصادم وتضارب في استراتيجياتها الخارجية، الامر الذي انتج نوع من التعقيد في ديناميكيات التوازن الاستراتيجي، هذا التعقيد يتطلب استراتيجية احترافية للتعاطي معه ولتسيير نسق المصالح الوطنية بما لا يتصادم ما تلك الديناميكيات، وبالتالي يتطلب من العراق وضع استراتيجية خارجية تنبى على اساس احترافي ( بعيدة المدى، معدلة تكتيكياً)، فأي خيار او توجه غير محسوب يؤدي الى تداعيات تضر المصالح الاستراتيجية للعراق، خصوصاً وان العراق يعاني من خلال في ميزان القوة الاستراتيجي( عسكري، اقتصادي، امني)، الامر الذي خلق نوع من التقييد في ادارة الشراكات الاقليمية والدولية للعراق.

ان ثقل وحجم الشراكات الدولية للدولة في القرن الحادي والعشرين هو امر ايجابي لتعضيد الاستراتيجية الخارجية لأي دولة طامحة بان توسع دائرة تفاعلاتها البينية بما خدم مصالحها الاستراتيجية، فترسيخ الشراكة مع القوى العالمية الرائدة في معادلة التفوق الاستراتيجي ( امني، اقتصادي، سياسي)، هو امر ايجابي من اجل ترصيد مكامن الضعف والترهل داخل البنية الاستراتيجية للدولة،  فالحاجة الى تحالفات امنية وشراكات اقتصادية مع القوى الكبرى هو امر له انعكاساتها الايجابية على المعادلة القوة داخل الدولة وخارجها، لكن الامر السلبي المأخوذ على هذا مبدا هو تطور هذه الشراكات لتصل الى تشكيل استراتيجيات محاور وتصارع الامر ينعكس على موافق الدولة الاقليمية والدولية.

ان عملية المبادلة والمفاضلة ما بين الشراكات الاقليمية والدولية للعراق في ظل الوقع الاقليمي المرتبك هي في غاية الحساسية والتعقيد والأهمية، خصوصاً وان هناك تضارب وتصارع للمصالح ما بين القوى الاقليمية والعالمية (ايران، الولايات المتحدة)، (تركيا، الولايات المتحدة) (السعودية، تركيا)، (ايران، السعودية)،( ايران، اسرائيل)، هذه المضاربة تنعكس بشكل او باخر على اسس ترتيب الاولويات الاستراتيجية للعراق في الدائرة الاقليمية وتنعكس ايضا على اسلوب تعاطي العراق مع شراكاته الدولية، وبالتالي لابد ان يعتمد منطق المفاضلة والمبادلة على عاملين اساسيين، يتجلى الاول في حجم ما تمتلكه الدولة العراقية من قدرات استراتيجية تتح لها مرونة الاختيار، اما الثاني يعتمد اساسا على شكل وملامح الصراع والتنافر الاقليمي والعالمي، فكل ما اشتد الصراع ضاقت خيارات المبادلة والمفاضلة الاستراتيجية، ليأتي دور توظيف الحذاقة الاستراتيجية لتوسيط مصالح الدولة بما لا يتصادم مع المصالح الاقليمية والعالمية.

ومن هنا تبلج اهمية مبدا الشراكات الدولية بالنسبة للعراق، فالعراق اليوم هو في حالة بناء قدرات استراتيجية (عسكرية، اقتصادية) والتي تتطلب دعم واسناد قوى عالمية متنفذة كالولايات المتحدة والاتحاد الاوربي ..الخ، هذه القوى لها ثقلها في مجال الدعم والاسناد، وبالتالي ترسيخ الشراكات مع هذه القوى هو امر استراتيجيا لاستحصال القوة والدعم في الداخل والخارج مع ضرورة التأكيد على عدم تضاربها مع سياقات الشراكات الاقليمية، والسؤال المهم الذي يطرح نفسه هنا يدور حول، ماهي القاعدة التي تحدد اسس انتخاب شراكاتنا الاستراتيجية في الجوار الاقليمي والعالمي لدى صانع القرار العراقي؟، وعلى ماذا تستند هذه القاعدة؟ وما هي اسس وحيثيات هذا الانتخاب؟، الإجابة على هذه التساؤلات تحدد وفق  سلوك ومدلولات السياسة الخارجية في الدائرة الاقليمية والعالمية، وتدور في فلك عرابو الاستراتيجية الخارجية للعراق.