الولايات المتحدة وعتبة القوة الجديدة

28.04.2016

برأي البرتو ميثول فيري، فإنه من أجل فهم  الحاضر والمستقبل، من الضروري دراسة التاريخ وتحليله بشكل عميق:

رحلة إلى المصادر التي جاءت منها الظاهرة التي نراها اليوم، من أجل العودة إلى الحاضر مع وعي أفضل للفرضية التي سنستخدمها في تحليلنا لدراسة فرضيتنا، وتفسيرنا حول المستقبل. ربط الحاضر بالماضي وربط الحاضر بالمستقبل هي  "أركان" أسلوبنا في تحليل العلاقات الدولية.
في الفصول السابقة قمنا بجولة في الماضي، ونقترح اليوم أن نجري "استطلاع" للحاضر والمستقبل. ولذلك، فإننا سنقوم بمحاولة إجراء تحليل موضوعي لبعض الاتجاهات الكبرى في العالم. سنحاول من خلال فرضية الحاضر، تحديد بعض التحديات الخطيرة، ولكن أيضا بعض الفرص التي تواجهنا في هذا القرن.
لتشكيل فرضيتنا في مرحلة لاحقة، واقتراح الإجراءات السياسية التي تسمح لدول محيط أمريكا الجنوبية بالاللحاق بقطار التاريخ الأخير، ما يعني الدخول إلى الموجة الثالثة من العولمة، من أجل بناء اقتصاد التكنولوجيا العالية وتمكين هذه الدول من مواكبة ركب التطور التاريخي للبشرية، كما فعلت الدول التي لم تطور نفسها من خلال التصنيع  خلال القرن التاسع عشر، ندرك أن الحقائق السياسية، مثل كل الحقائق الإنسانية "ممارسة الحرية في سياق العوامل الحقيقية والمثل العليا، وفقا للتشكل الأخير للظروف المتاحة" (جاجوريب، 2001: 35). وحسب إعادة الصياغة لخوسيه أورتيغا وجاسيت، فإننا نعتقد أن الدول هي دول حسب ظروفها. ونحن نعتقد أيضا، ما استخلصه هانز مورغنثاو، أن استخلاص مسار تيار القوة العالمية، وتوقع التغيرات في الاتجاه والسرعة، يكشف -تحت سطح العلاقات الحالية للسلطة- أن التطورات الجنينية في المستقبل، دائما مهمة مثالية، وعندما تجرى بنجاح، هذا يشكل إنجازا فكريا عاليا للمحلل في السياسة الدولية. كمهمة مثالية، فإن مورغنثاو يحذر، من أنه بسبب عدم الكمال في الطبيعة والإنسان، لا يمكن التنبؤ بشكل مثالي، لأن هناك عوامل لا يمكن أن تكون معروفة بدقة والتي تجعل حسابات التقييم دائما غير دقيقة (مورغنثاو، 1986: 194).
وكما ذكرنا سابقا، فإنه منذ حققت الولايات المتحدة الإنجاز الصناعي الكامل، ارتفعت عتبة القوة لديها وصار لزاما على الدول الأخرى في المنظومة اللازمة الوصول لهذه العتبة من اجل الحفاظ على قدراتها اللاإرادية حتى لا تقع تحت التبعية الأمريكية.
وكانت النتيجة الحتمية لتحول الولايات المتحدة إلى الدولة-الأمة القارية الصناعية الأولى، أنه سيكون غير ممكن للوحدات السياسية الأخرى في النظام الدولي، الحفاظ على قدراتها اللاإرادية الكاملة إلا إذا كانت قادرة على أن تصبح دولة-أمة صناعية ذات مساحة وسكان، بشكل تماثل فيه تلك العوامل التي تملكها الولايات المتحدة، وهذا يوضح معنى المناطق السطحية القارية.
مع الحرب العالمية الأولى، ظهر نموذج الدولة – الأمة في القرن التاسع عشر، مثلته كل من بريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا، وقد كان واضحا تماما أنه قد تم تجاوز هذه الدول من قبل الدولة- الأمة الأمريكية ذات العمالة الصناعية القارية العملاقة، وأن الغالبية العظمى من دول أمريكا اللاتينية كانت، بالمقارنة مع الإمكانيات الصناعية الضخمة للدولة الأميركية، عاجزة ودويلات صغرى تابعة كولايات ثانوية، كما كانت دويلات المدن في جنيف أو البندقية، عندما اندثرت الدولة-الأمة الإسبانية أو الفرنسية في التاريخ.
أكد مفكرون كثيرون مثل مانويل أوغارتي، خوسيه فاسكونسيلوس، روفينو بلانكو فومبورا وفرانسيسكو غارسيا كالديرون، أنه فقط من خلال التصنيع والتكامل يمكن لدول أمريكا اللاتينية الوصول إلى عتبة جديدة من القوة.
منذ نهاية العقد الخامس في القرن العشرين أنجزت الولايات المتحدة دفعة جديدة للدولة من خلال البدء في بناء قطاع التكنولوجيا العالية. وهكذا فعلى الوحدات السياسية الأخرى في المنظومة الوصول إلى هذه العتبة الجديدة للحفاظ على قدراتها اللاإرادية.
ومع ذلك، من الضروري التوضيح أن المبالغة في تقدير التكنولوجيا العالية كعامل من عوامل القوة قد يدفع الولايات المتحدة إلى الوقوع في خطأ التقليل من أهمية القطاع الصناعي، كعامل هام من عوامل القوة. إن المبالغة بتقدير أهمية التكنولوجيا العالية كعامل من عوامل القوة قد يؤدي إلى إهمال القطاع الصناعي مما يضعف هرم القوة. الاقتصاد القائم فقط على التكنولوجيا العالية، قد يستبعد كتلة العمالة الهائلة ويحولها إلى مجموعة من الفقراء..
الصعود والهبوط الاقتصادي والاضطرابات المختلفة في الأسواق العالمية الدولية تتأثر بهذا العامل. في الواقع فإن الاعتقاد الخاطئ بأنه سيكون ممكنا للدولة ما بعد الصناعية (عالية التطور الصناعي) أن تكون قادرة على تنحية العامل الديناميكي المحرك لها للأمام -الصناعة - هو العامل الرئيسي للضعف الشهير لاقتصاد أمريكا الشمالية. الاعتقاد بأنه من خلال إنتاج التكنولوجيا العالية وخلق قطاعات متزايدة من السكان في مجال الخدمات لنقل العامل الصناعي إلى مناطق أخرى أبعد في بلدان أخرى ليصبحوا موردين لجميع أنواع السلع المصنعة، يولد ضعفا ملحوظا في العمالة والهيكل الإنتاجي.
التكنولوجيا العالية، من حيث التعريف، هي الحصرية في القوى العاملة، والعمال القليلون الذين تتطلبهم التكنولوجيا العالية يحتاجون إلى مستوى عال جدا من التدريب، عدد قليل جدا يمكن الوصول إليه من عدد كبير من السكان. وهكذا فإن الجماهير العمالية الكبيرة تبدأ في فقدان وظائفها، فيلتحقون بقطاعات الخدمات التي تعتمد بشكل ملحوظ على التقلبات الاقتصادية، ونتيجة لذلك سيؤدي هذا إلى خفض نوعية عملهم وقدرتهم على الاستهلاك والسداد. الاقتصاد الذي لا يولد الدخل الحقيقي بكميات كبيرة -كما كانت الولايات المتحدة  بصناعتها والسوق الداخلية العملاقة- ينتهي به الأمر إلى عدم القدرة على إدامة حلقات جديدة من النمو.
اليوم الولايات المتحدة وذلك بفضل التفاعل على النحو الذي وضع موضع التنفيذ من قبل الدولة، أصبحت أول دولة "ما بعد صناعية" في التاريخ، ومنطقيا، فإنها مرة أخرى رفعت عتبة القوة, وعلى الوحدات السياسية الأخرى في النظام الدولي اللحاق بهذه العتبة من أجل الحفاظ على قدراتها اللاإرادية.  ولكن في الوقت نفسه، فإن المبالغة في تقدير هذا العامل يمكن أن يبدد القوة الوطنية الأمريكية. اعتماد الصناعة على دول أخرى يجعل الولايات المتحدة معرضة للصعود والهبوط غير المرغوب فيه في اقتصادها، وهو اقتصاد يعتمد أكثر وأكثر على المضاربة ومع جودة أقل في الدخل يبدو أنه غير قادرة على الحفاظ على نفسه من خلال العجز المتنامي.
بالتأكيد، إذا لم تعمل الولايات المتحدة على إعادة حساباتها فيما يخص قطاعها الصناعي، سيكون عليها تحمل زوال هذا القطاع عن طريق الخطأ الناتج عن تصور قيمة التكنولوجيا العالية، علما أن هذا القطاع هو أحد الطوابق الأساسية في هرم القوة.
في إحدى التفسيرات  لتوفلر يمكن للولايات المتحدة أن تجد نفسها غير قادرة على التغلب على واقع عدم القدرة على توفير الدخل والطاقات الكافية بالنسبة للاقتصاد الأمريكي. الانهيار الاقتصادي في السنوات القليلة الأولى من هذا القرن بسبب القروض العقارية في 2007-2008، يبين عدم وجود أرضية صناعية تضمن ما هو فوقها. اليوم، من غير الممكن تصور دول مستقلة لا تستطيع إدارة التكنولوجيا الخاصة بها، ويبدو أنه من غير الممكن الاستغناء من الهيكل الصناعي مهما قدمت هذه التكنولوجيات الجديدة من إمكانيات.
ولذلك، فإن الأطروحة الأساسية التي يمكن الوصول من خلالها إلى عتبة القوة، هي تراكم العوامل وليس استبدال عامل بعامل آخر، كما يقول توفلر. بناء التكنولوجيا العالية هو شرط لازم لكنه غير كاف لبناء القوة الوطنية.