صورة جيبوبوليتيكية سياسية لأوروبا الشرقية.. والاستشراق
لا يوجد ضرورة للتفسير عندما يتعلق الأمر بمفهوم أوروبا الشرقية، فلا يوجد فهم موحد لحدود أوروبا الشرقية في العلوم الاجتماعية أو في مجال السياسة العملية. في الواقع، قبل تفكك دول الكتلة الاشتراكية في أوروبا (مجلس التعاون الاقتصادي "كوميكون" وحلف وارسو)، كان مفهوم أوروبا الشرقية يدل على الدول الأوروبية الاشتراكية السابقة، نسبياً المنطقة شرق خط تشرشل (شتتين-ترييستي) بين الغرب والدول التي كانت خلف الستار الحديدي في عام 1946. وتم تدريجياً في عام 1991 في الخطاب الرسمي لإدارات السياسة الخارجية، استبدال مفهوم أوروبا الشرقية بأوروبا الوسطى أو الوسطى والشرقية.
يعود سبب الشك والغموض حول مفهوم أوروبا الشرقية إلى طبيعته المزدوجة. فيُستخدم من ناحية في السياسات الدولية الحديثة وفي الممارسة السياسية الدولية والمحلية. ويستخدم من ناحية أخرى كمفهوم نظري في النقاش العلمي. كما يستخدم مصطلح أوروبا الشرقية لتمثيل البلدان في أوروبا الوسطى. يصبح النقاش حول معنى المصطلح أكثر حدة، ومع ذلك فإنه يسمح لنا بافتراض أن اسم المنطقة بحد ذاته ليس محايداً، ويحمل الكثير من المعاني. بالنسبة للجغرافيا السياسية يجب فهم الوظيفة الجيوسياسية، لكي نفهم معنى الصورة الجغرافية التي تكمن وراء مفهوم أوروبا الشرقية. وكما يلاحظ المحلل الجيوسياسي الأمريكي المعاصر " د. سلون "، فإن العنصر الأهم في النهج الجيوسياسي هو المفهوم الجغرافي للعلاقة المكانية الخيالية.
يمكن في هذا السياق ربط مصطلح "أوروبا الشرقية" بنظرية "د.زامياتين" للجغرافيا الوطنية كصورة جغرافية تؤثر على عمل الأجانب والمحليين. هذه الصورة تم إنشاؤها من قبل الناس في الوسط المحيط، الأمر الذي عكس العالم كما يتخيله هؤلاء الناس.
إن الدلالات الجغرافية-السياسية أو الجغرافية، حاسمة بالنسبة لمصطلحات زامياتين. يمكن وصف التغيرات الجيوسياسية في كثير من الأحيان بأنها تغيرات الصورة الجغرافية.
دراسة الصور الجغرافية، كما لاحظ الباحث الروسي ميلر، تجسد ظهور مثل هذا الاتجاه من الخرائط الذهنية في الأفكار الجغرافية والاجتماعية والسياسية الغربية. ورغب ممثلو العلوم الاجتماعية في رسم الخرائط الذهنية، في عمليات تشكيل الخرائط والصور الجغرافية الموجودة في ذلك الحين. وإذا استخدمنا مصطلحات ومنهجية "ميشيل فوكو"، فهي تتعلق بالممارسة المنطقية في المجال الجغرافي من خلال مخططات مختلفة.
ويذكر "ميلر" عندما تناوله لعلوم التاريخ، أنه قبل الكتابة عن تاريخ أوروبا الوسطى أو الشرقية، يجب أن تكون الخطابات في أوروبا الوسطى موضوع دراسات تاريخية أو دراسات علمية تاريخية وسياسية، من خلال معرفة مجموعة متنوعة من المصالح والانحيازات المرتبطة بمفاهيم أوروبا الوسطى المختلفة، ويمكن للمؤرخين استخدام مفهوم أوروبا الوسطى كأداة للبحث التاريخي. ونحن نعتقد أن هذه الدعوى هي ليست فقط للمؤرخين بل لعلماء الاجتماع والسياسة، وخاصةً في العلاقات الدولية، عند التعامل مع أوروبا الشرقية ومناطق أخرى.
وذكر العالم الأمريكي "لاري وولف" في عمله الشهير "اختراع أوروبا الشرقية"، قضايا مشابهة لمفهوم أوروبا الشرقية. يُظهر هذا الكتاب الشهير كيف خُلق الخطاب في أوروبا الشرقية، وصمم الخريطة الجغرافية، مشيراً إلى أن أوروبا الشرقية منذ لحظة ظهور هذا المفهوم في لغة العلوم السياسية كانت دائماً تُعتبر شيئاً بائساً عند مقارنتها بأوروبا الغربية. وتقف أوروبا الشرقية وكذلك دول البلقان، في وجه العدوان وانعدام الأمن والتخلف وعدم الاتساق في الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية الأوروبية المشتركة. هذه الصورة الجغرافية تشبه نظرة إدوارد سعيد في الشرق الأوسط حيث أن الأوروبيين الغربيين شيدوا الواقع الذي يخفي النوايا الاستعمارية للغرب.