روسيا وسياستها الحديثة وإرث الاتحاد السوفياتي المنتهي
ما هو الفرق بين روسيا والاتحاد السوفيتي؟ من هو الحليف، ومن هو الصديق، ومن هو الشريك بالنسبة لروسيا، وماذا يعني ذلك؟
عادة ما ينظر العالم إلى روسيا كقوة موازنة للولايات المتحدة الأمريكية، وهو الدور الذي ورثته موسكو عن الاتحاد السوفيتي، ربما كان ذلك الدور هو قدر روسيا الجيوسياسي، إلا أن هذا الدور ينمو تدريجيا بتطور المواجهات الروسية الأمريكية.
لكن يتعين القول هنا بأن روسيا ليست الاتحاد السوفيتي، بل وإن العالم قد تغيّر جذريا خلال العقود الثلاثة الماضية. صحيح أن روسيا قادرة على الدفاع عن نفسها، فهي الآن الدولة الوحيدة في العالم التي تستطيع تدمير الولايات المتحدة الأمريكية، لكن القدرة الروسية في أتون المواجهات الإقليمية باستخدام الأسلحة التقليدية، لا شك أضعف بكثير من قدرات الاتحاد السوفيتي السابق، وقدرات الولايات المتحدة الحالية، وبالطبع الناتو. لذلك فإن أي حرب إقليمية بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية/الناتو قد تنتهي إما بهزيمة روسيا، أو (وذلك الاحتمال الأقرب) تصعيد الأزمة النووية بكل ما تحمله من تداعيات يستحيل التنبؤ بها.
وذلك كله في الوقت الذي تقع الولايات المتحدة الأمريكية فيه تحت سلطة وهم أن روسيا لن تلجأ أبدا إلى سلاحها النووي، وهو ما يرفع من خطورة الحرب التي قد تصل إلى حرب نووية، نظرا لأن روسيا بطبيعة الحال لا تعتزم قبول هزيمتها على أية حال . من هنا كانت أي مواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية من أجل مصلحة دولة ثالثة تحمل بالنسبة لروسيا مخاطر وتكلفة قد تضطر لأن تدفعها.
لذلك فإن روسيا لن تتدخل الآن تلقائيا في أي أزمة تشارك فيها الولايات المتحدة الأمريكية، لمجرد إلحاق الأذى بها، بل ولن تكون الإجراءات الروسية مبنية على أية دوافع أيديولوجية، وإنما سوف يكون الهدف الروسي دائما وأبدا مستندا إلى مصالح وطنية براغماتية ولا شيء غير ذلك.
يحتاج العالم بلا شك إلى موازنة لقوة الولايات المتحدة الأمريكية، فالدول الصغيرة والضعيفة تحتاج إلى "دب روسي" يعادل الضغط والمساومات الأمريكية، والذي تكفي مغازلته لإجبار الولايات المتحدة الأمريكية على الإقدام على تنازلات لهذه الدول.
تلك ألعاب شفافة ومفهومة، والمشاركة فيها تحمّل موسكو أيضا تكلفة سياسية معينة، لذلك فإن روسيا لا تعتزم في الوقت الراهن الدخول في تلك الألعاب، دون أن تكون هناك مصلحة وطنية في ذلك.
وحينما تلجأ تلك الدول إلى روسيا من أجل الدعم والمساعدة فقط حينما تعاني من المحن والمصاعب، بينما تتخلى عن روسيا حينما تحتاج روسيا نفسها إلى الدعم، فإنه لا يجب أن تتطلع تلك الدول إلى أكثر من الشراكة العملية البراغماتية من جانب الروس، شراكة تساوي بالمثل نفس موقف ودعم تلك الدول تجاه روسيا.
لا شك في أن العدوان المتصاعد من جانب الولايات المتحدة الأمريكية ضد فنزويلا خطر ليس فقط بالنسبة لفنزويلا، وإنما للعالم بأسره، فهو مثال لما يمكن أن يمثله أي عدوان فج غير مبرر وغير شرعي من دولة على سيادة دولة أخرى. فالضحية القادمة للولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن تكون أي دولة في العالم، وبذا يكون العالم قد دخل في خضم قانون الغاب.
من هنا كانت خطوات روسيا الحاسمة في الأمم المتحدة لإحباط محاولات الولايات المتحدة الأمريكية شرعنة الانقلاب في فنزويلا والتدخل الأمريكي الفج، وسوف تواجه روسيا كذلك أي أساليب ضغط غير شرعية على فنزويلا. وسوف تقدم روسيا لفنزويلا الدعم السياسي والاقتصادي الملائم لمصالح روسيا والسلم العالمي.
لكن فنزويلا، مع الأسف، لا تندرج تحت بند الدول ذات العلاقة الخاصة مع روسيا، فبعد انهيار الأيديولوجية الشيوعية في الاتحاد السوفياتي، لم تعد التجارب الاشتراكية الفنزويلية كافية لتصبح القاعدة الوحيدة لتطوير علاقات خاصة بين البلدين.
كانت كاراكاس تودّ بالتأكيد أن تعتمد على موسكو في مواجهتها مع الولايات المتحدة الأمريكية لمدة طويلة، لكن الخطوات التي اتخذتها كاراكاس تجاه موسكو لم تتعدى التصريحات وبضع العقود التجارية وعقود السلاح، والتي لا تخرج جذريا عن إطار التعاون التقليدي بين دول العالم، على العكس من سوريا، التي تتمتع بحلف استراتيجي مع روسيا.
يصعب علي تحديد الخط الذي تصبح موسكو ورائه مستعدة لصد العدوان الأمريكي على فنزويلا، لكن رؤيتي الخاصة هي أن روسيا لن تشارك في أي مواجهة عسكرية محتملة بين البلدين، كما لن تشارك في الصراع السياسي داخل فنزويلا نفسها، لكن دعما ما سوف تمنحه روسيا.
في الشرق الأوسط، تدعم روسيا سلطة الرئيس بشار الأسد في مواجهة الإرهاب، لكنها لا تتدخل في المواجهة بين إيران وإسرائيل، و قد يبدو ذلك غريبا فقط، لمن تجمدوا في عقلية القرن العشرين. تواكب هذه السياسة نموذج العلاقات بين موسكو والدول الأخرى، فمستوى التعاون الروسي مع أي دولة، لا تحدده سوى المصلحة المشتركة مع تلك الدولة، واستعدادها للتعاون مع روسيا.
ودعونا نتذكر التصويت على قرار الجمعية العمومية في الأمم المتحدة، مارس 2014، الذي نص على أن إرادة سكان شبه جزيرة القرم في استفتائهم على الانضمام إلى روسيا ليس شرعيا، وبذلك لم يعترف بسيادة روسيا على القرم، وهو ما وضع تكامل أراضي روسيا محل شك.
لقد دعم روسيا في تلك اللحظة العصيبة، وصوت ضد هذا القرار سوريا والسودان، بينما دعم القرار كل من البحرين والأردن وقطر والكويت وليبيا وموريشيوس والمملكة العربية السعودية وتونس. بينما امتنع عن التصويت أو لم يشارك به صديقتنا مصر وسائر الدول العربية، ولم يدعموا بذلك إرادة شعب القرم ووحدة الأراضي الروسية، ليصدر القرار الأممي جراء ذلك.
وتتكرر قرارات الجمعية العمومية للأمم المتحدة بضغط من الولايات المتحدة الأمريكية كل عام لشجب "احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم"، آخرها كان في ديسمبر 2018، وصدر القرار من جديد كما في السابق، حيث صوتت كل من جيبوتي وقطر وتونس (التي يزورها سنويا ملايين السائحين الروس) لصالح القرار، وصوتت كل من سوريا والسودان ضد القرار، بينما امتنعت عن التصويت أو لم تشارك فيه: الجزائر، البحرين، مصر، العراق، الأردن، الكويت، ليبيا، موريتانيا، عمان، المملكة العربية السعودية، دولة الإمارات المتحدة، لبنان، المغرب، اليمن.
بالطبع لا يغير تصويت كهذا من الأمر شيئا بالنسبة لروسيا، ولا تعيره موسكو اهتماما مبالغا فيه، خاصة حينما يتعلق الأمر بتعاون روسيا مع تلك الدول، ولكن التصويت يشير إلى العلاقة ومستوى التعاون الذي تريده هذه الدول مع روسيا، وأعتقد أن تلك الدول لا بد وأن تدرك وتقبل رد الفعل والمشاعر الروسية تجاه هذه المواقف، وكذلك تأثير تلك المواقف على مدى استعداد روسيا لاتخاذ إجراءات للدعم والمساعدة إذا ما طلبتها أي من تلك الدول في حالة الطوارئ. على الرغم من أن روسيا وبأي حال من الأحوال مستعدة دائما للتعاون مع جميع الأطراف.
إن "الحب من جانب واحد" قد انتهى بالنسبة لروسيا بانهيار الاتحاد السوفيتي. الآن، وكما قال الراحل ياسر عرفات، لابد للتانغو من راقصين اثنين.
أؤكد أن هذا إنما يعكس وجهة نظري الشخصية لتطور الوضع، والتي يمكن أن تختلف تماما عن وجهة نظر وموقف الكرملين.