عراقيون وسوريون يعودون خائبين من "أرض الميعاد" إلى حروب الوطن
نحن هنا مثل السجناء تماماً». قالها بشار اللاجئ الذي وصل من العراق ليجد نفسه محشوراً مع المئات من اللاجئين من دول متعددة في القاعة الرياضية لمدرسة مدينة» بورن هايم» الواقعة في غرب ألمانيا. وأضاف «يقدمون لنا الأطعمة الألمانية فقط وهي عبارة عن سندويتشات، ونحن متعودون على الطبيخ العربي». وعلق لاجئ آخر «ماذا سنفعل عندما يحل رمضان؟». وشكى صبي عمره 14 سنة من أنه محروم من اللعب على جهاز «الأيفون» الذي حمله معه من سورية، إذ ما إن يقوم بذلك حتى يتعالى صراخ الحاضرين طالبين منه أن يحافظ على الهدوء».
الوضع في قاعة «بورن هايم» الرياضية التي تحولت إلى مركز لإيواء اللاجئين إلى حين استكمال إجراءات منحهم صفة اللاجئ رسمياً ساخن للغاية، ويشوب المحتشدين فيه التوتر الحذر.
اللاجئون الذي ينتظرون حسم أوضاعهم منذ أشهر عديدة لا يكفون ولا يملون من تكرار الشكوى من الظروف السيئة التي تنكد عليهم أيامهم العصيبة أصلا. الرقابة الصارمة من عمال الخدمات على النظافة ترفع من منسوب انزعاجهم من المجهول الذي ينتظرهم، فلا أحد يبلغهم بالفترة التي سيتعين عليهم فيها البقاء داخل هذا السجن.
يسكن في القاعة 80 لاجئاً غالبيتهم من العراقيين والفلسطينين والسوريين، بعضهم قرر الاحتجاج سلمياً ضد سوء الخدمات والطعام وظروف العيش، إضافة إلى التأخر في حسم وضعه ومنحه رسمياً صفة اللاجئ التي توفر له فرصة الانتقال إلى بيت دائم والحصول على إعانة مالية، وربما عمل، وفضل أن يكون احتجاجه بنصب خيمة في الشارع الذي تقع فيه المدرسة.
بشار طبيب عيون، ترك عمله وأغلق عيادته الخاصة، وفر من مدينته ومن العراق بعد تلقيه تهديدات بالقتل من ميليشيات طائفية مسلحة تسيطر على الحي الذي يسكن فيه، ولكنه لم يفصح عن هوية وانتماء هذه الميليشيات. ويضيف» توهمت أن مستقبلنا هنا»، ويتساءل بخيبة ممزوجه بمرارة صارخة «أهذا هو المستقبل الواعد الذي حلمت به؟».
يعيش بشار في هذه القاعة مع عائلته الصغيرة، ومعه ستة لاجئين يتقاسمون مساحة لا تزيد عن 25 متراً مربعاً». قسمت القاعة إلى غرف صغيرة فصلت جدرنها بألواح من الخشب المضغوط، ووضع في كل غرفة سرير من طابقين». بشار واللاجئون الآخرون لا يفعلون أي شئ طوال النهار سوى النوم، مستسلمين إلى اليأس والكسل والعجز عن فعل شيء يضفي على حياتهم ولو نسمة من البهجة. يستغرب راينر شومان موظف البلدية المسؤول عن تنظيم الفاعليات الترفيهية في المعسكر شكاوى اللاجئين من الفراغ ويقول «حقيقة لا أفهم لماذا هم دائمو الشكوى، فنحن حرصنا على توفير فاعليات كثيرة لقضاء أوقاتهم مثل لعب كرة القدم أو كرة الطائرة، والسفرات إلى المواقع السياحية، ودورات لتعلم اللغة الألمانية».
شراسة خيبة الامل
خيبة الأمل هي الإحساس المشترك الذي يغلب على اللاجئين والمهاجرين الذين ينجحون في اجتياز الأسلاك الشائكة على الحدود المشتركة ويقاومون بشراسة موجات البحر الهائجة التي تريد ابتلاعهم قبل وصولهم إلى أرض الميعاد، المانيا.
تقول أستاذة علم النفس إيفا – لوتا براكماير «في البداية ينتابهم إحساس غامر بالارتياح والطمأنينة بوصولهم سالمين إلى بر الأمان ونجاتهم من الموت متعدد الأشكال في بلدانهم المنشغلة بالحروب الطائفية والمعطرة شوارعها وأحيائها وزواريبها برائحة الموت، ولكن بعد أيام معدودة، وفي بعض الأحيان بعد ساعات قليلة يستفيقون من أحلام اليقظة ليكتشفوا أنهم أضحوا بلا حياة شخصية وبلا أفق للمستقبل فتتلقفهم آنذاك شباك الكآبة ويقعون في أحضان الالم المكتوم والحنين ألى الوطن».
«لو أنني أعاني لوحدي من هذه الأأوضاع لكنت كبحت جماح تمردي وغضبي، إلا أن ابني الصغير أحمد هو أكثر من يتعذب بيننا بسبب وضعه الصحي المتردي الذي يستلزم عناية خاصة، فهو مصاب بمرض السكري» يقول بشار ويضيف «يزورنا متطوعون من جمعية خيرية تهتم بمساعدة اللاجئين من الأطفال حيث تنقله إلى المستشفى مرة واحدة في الأسبوع ليتابع الأطباء حالته الصحية. المشكلة أن هذا لا يكفي فهو يحتاج إلى بيئة مغايرة وطعام مختلف».
الحياة في هذا المكان برأي بشار لا تطاق ومرارتها فاقت طعم العلقم، ربما كان من الأفضل لعائلتي لو بقينا في العراق على الرغم من الأخطار التي تحيط بنا من كل مكان في مدينتا المشؤومة».
في» بورن هايم» تبدو أعصاب الجميع وكأنها توشك على الانفجار، الإدارة المحلية تبذل جهدها وتفعل ما بوسعها كما تقول لتوفير منازل لبشار وعائلته ولأكبر عدد من اللاجئين، ولكن لا منازل خالية في المدينة. بشار وغيره من اللاجئين يتجمعون كل يوم ومنذ الصباح الباكر أمام مبنى بلدية المدينة باحثين عن أجوبة لأسئلة كثيرة تشغل بالهم وتؤرقهم: كم من الوقت سيتحتم علينا البقاء في هذا المعسكر؟. يتساءل بشار ويؤكد «لن أعود إلى العراق أبدا، سأنتظر هنا أمام مبنى البلدية كل يوم إلى أن يعثر موظفوها على بيت لي ولعائلتي».
وسيم الذي لم تعجبه ألمانيا
وسيم وصل إلى ألمانيا قادماً من سورية قبل أكثر من 20 شهراً، وهو يعيش الآن في مدينة صغيرة تابعة لمنطقة ويستفاليا الشرقية. وسيم لم يجد كما يؤكد الشيء الذي غامر بحياته من أجله وهو العمل والطمأنينة. وسيم البالغ عمره 38 سنة كان مهندساً معمارياً في سورية. يقول «منذ قدومي إلى هنا لم أترك مؤسسة إلا وذهبت مستجدياً العمل من دون جدوى: وكالة لتشغيل، بورصة العمل، المطاعم، المقاهي، ورشات العمل المختلفة. لقد مرت سنة ونصف السنة وأنا على هذه الحال أعيش على الهامش». العمارة التي يسكن فيها وسيم جميع قاطنيها من اللاجئين.
يقول» نعيش في عزلة عن الألمان لا نعرفهم ولا يعرفوننا فكيف سيساعدنا أحدهم في العثور على فرصة عمل؟». ويضيف «اليأس والوحدة والمجهول تؤطر حياتنا اليومية، كثيرون اختاروا التغييب القسري لأوجاعهم بتعاطي المخدرات». وسيم خاب أمله نهائياً وقرر مغادرة المانيا، لكنه ليس مقتنعاً بأنه يتحمل جزءاً من الذنب لعدم عثوره على عمل ويصر على أن يحمل الساسة والسلطات الألمانية المسؤولية عن ذلك. يغادر وسيم ألمانيا من دون حقيبة سفر لأن لا شيء لديه غير ما يرتديه من ملابس، يحمل جواز سفره مع تذكرة السفر إلى بيروت حيث بانتظاره هناك عائلته، ويقول «شكراً ألمانيا»!.
أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين يفضلون العيش في تركيا على الهجرة إلى أوروبا على رغم الظروف البائسة التي يعيشون فيها، والأجور الضئيلة التي يتلقونها من أرباب العمل الأتراك، وذلك لأسباب ثقافية ودينية. أحمد اسماعيل أحدهم وكان فر من سورية بعد أن حاصر مقاتلو «داعش» قريته. يقول أحمد إن أخاه الأكبر «يعيش منذ سنوات في ألمانيا، لديه بيت وعمل براتب جيد، وهو يتقن التحدث باللغتين الألمانية والإنكليزية، لكنه مع ذلك لا يشعر بأنه سعيد» ويضيف «أخي لم يستطع التكيف مع الحياة في أوروبا ولم يتمكن من الاندماج في المجتمع الألماني»، موضحاً «هذا هو السبب الذي جعلني أفضل البقاء في تركيا».
يتحتم على طالب اللجوء في ألمانيا المرور بمجموعة من الإجراءات المعقدة قبل البت في طلبه بالقبول او الرفض، وأول شيء يتوجب عليه القيام به هو تسجيل اسمه في مركز تقديم طلبات اللجوء، ويشترط لقبول الطلب أن يورد صاحبه سبباً مقنعاً دفعه للفرار من بلده، وإذا لم يتمكن اللاجئ من إقناع المسؤولين الذين ينظرون في ملفه، علما بأنهم يتمتعون بخبرة ودراية كبيرة بالأوضاع السياسية والجغرافية للبلدان التي ينتمي إليها طالبو اللجوء من دون استثناء، فإن طلبه يرفض. وتشير البيانات الرسمية إلى «أن المكتب الفيديرالي للهجرة واللاجئين يرفض ثلث وربما في بعض الأحيان اكثر من نصف الطلبات، ولكنه يعطي المتقدمين فرصة لتقديم طلب ثان، أو الطعن بقرار الرفض أمام المحكمة أو مغادرة البلاد».
أساطير الحياة في ألمانيا
عمر وعبد الله تركا عملهما في اربيل بكردستان العراق، ودفعا 1600 يورو هي كل مدخراتهما المالية إلى المهربين مقابل مساعدتهما في دخول ألمانيا وبعد وصولهما إلى هناك، قامت سلطات الحدود بنقلهما إلى معسكر يزدحم بمئات اللاجئين، حيث عاش الاثنان أياماً عصيبة اكتشفا خلالها طعم الجوع ولسعات البرد القارس. عمر البالغ من العمر 25 سنة كان يعمل نادلاً في احد المطاعم الفاخرة في اربيل، فيما صديقه عبد الله سائق تاكسي قام ببيعه لجمع المبلغ الذي طلبه المهربون.
يقول عمر «عشنا أياماً حالكة ومؤلمة في ألمانيا». هربنا من المعسكر بعد أن ارتجفت أرواحنا من الجوع وتآكلت عظامنا من وطأة البرد. كانوا يقدمون لنا الشاي والجبنة الصفراء مع الخبز في كل يوم ولا شيء آخر، مع مساعدة نقدية قدرها 30 يورو في الأسبوع». قرر الاثنان العودة مجدداً إلى كردستان بعد أن اقتنعا بأن ما سمعاه من أساطير حول الحياة في أوروبا ليست إلا حكايات متخيلة وأمنيات مغلفة بخيبة أمل تدق مساميرها في أعماق ذاكرتهما المعذبة». ووفقاً لما ذكره رئيس لجنة حقوق الإنسان في البرلمان الإقليمي الكردي سوران عمر فإن «المعاناة التي عاشها الاثنان في ألمانيا ليست حالة فردية، بل هي ظاهرة عامة بعد عودة الآلاف من المهاجرين».
تشير بيانات المنظمة الدولية للهجرة التي مقرها جنيف إلى أن أعداد اللاجئين العراقيين الذين دخلوا المانيا ضمن موجات اللاجئين العام الماضي يصل إلى 140 ألف لاجئ بينهم 40 ألف لاجئ من الإقليم الكردي العراقي. ويتضح من دراسة أعدتها هذه المنظمة «أن عدد اللاجئين العراقيين الذين قدموا طلبات للعودة إلى بلادهم أخذ في الازدياد مع اشتداد موجات البرد وسقوط الثلوج من 100 طلب في الشهر الى 350 ومن ثم الى 761 في العام 2015، وهو عدد شهد ارتفاعاً جديداً ملحوظا إلى 831 شهرياً أوائل العام 2016». وذكرت مندوبة المنظمة في بغداد ساندرا بلاك في تصريح نقلته اسوشيتدس برس «من الصعب للغاية معرفة العدد الحقيقي للعائدين إلى العراق من اللاجئين لأن أعداداً كبيرة نسبياً منهم تعود بشكل مستقل أو انهم يختلطون بعائدين من جنسيات أخرى».
ويرى بلاك «إن اللاجئين يعودون بسبب فقدانهم الأمل بالحصول على فرصة حياة جديدة في أوروبا، إضافة إلى سوء الظروف المعيشية، وانعدام إمكانات الحصول على الوظائف أو الأعمال المناسبة أو توفير البيوت السكنية لهم كما كانوا يتوقعونه، وكذلك الإجراءات المعقدة والبيروقراطية لجمع شمل العائلات».
ويعتبر أستاذ مادة الانثروبولوجيا في جامعة «نوتردام» ماوريسيو البخاري الذي يقوم بإعداد دراسات عن المهاجرين في أوروبا ان «العديد من الدول الأوروبية تعمل في شكل فعال لتثبيت عزم طالبي اللجوء والهجرة ولو في شكل شكل غير مباشر على الاقل من خلال التأخير المتعمد في تنفيذ إجراءات البت بطلبات اللجوء».
يفيد تقرير صادر عن مكتب إحصاءات الاتحاد الاوروبي «يورستات» أن «الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي منحت خلال العام 2015 حق اللجوء و الهجرة إلى أكثر من 340 ألف شخص». ويعكس الرقم نمواً بنسبة 72 في المئة في عدد الذين حصلوا رسمياً على صفة اللاجئ مقارنة بالعام 2014. ويتضح من البيانات الواردة في التقرير «أن السوريين يشكلون العدد الاكبر من بين الذين حصلوا على حق الحماية، ويبلغ عددهم 166 الفاً و100 شخص» يليهم الارتريون 27 الف (8 في المئة) ومن ثم العراقيون 23 ألفاً و700 شخص (7 في المئة)،60 في المئة من السوريين من الذين تم البت بطلباتهم هم الآن في ألمانيا (104 الاف)، فيما المتبقون يقيمون الآن في السويد وهولندا، يأتي بعدهم العراقيون 15 ألفاً و500 شخص في ألمانيا و2800 شخص في فرنسا. ووفق التقرير فإن «الدول الأوروبية التي بتت بالعدد الأكبر من طلبات اللجوء هي: المانيا تليها السويد، ومن ثم كل من ايطاليا وفرنسا وبريطانيا والنمسا وهولندا».
ويفيد التقرير بأن «الاتحاد الأوروبي وافق حتى الان على 52 في المئة من طلبات اللجوء، و97 في المئة من السوريين حصلوا على حق اللجوء، فيما تم قبول 3 في المئة فقط من طالبي اللجوء من دول البلقان مثل مقدونيا وكوسوفو والبانيا، كونها دول مدرجة في اللائحة الأوروبية لما يعرف باسم «الدول الآمنة». كما رفضت طلبات للحصول على صفة اللاجئ في الاتحاد الاوروبي لدول اخرى مثل: غامبيا (33.6 في المئة) ،السودان (56 في المئة)، الصومال (63.1 في المئة)، ايران (64.4 في المئة) وافغانستان (67 في المئة)».
الحياة اللندنية