موسكو والهدنة الهشة
في اليوم الثالث للهدنة الجديدة في سوريا، التي جرى الاتفاق عليها بين لافروف وكيري في جنيف مؤخراً، خرج الكرملين على لسان ناطقه الصحافي دميتري بيسكوف ليصفها بالهدنة الهشّة. لكن بيسكوف قال أيضاً إنها «تبعث على الأمل في توفير الظروف الملائمة للحوار السياسي». لا شك في أن هذه الهدنة هشة، مثلما كان عليه الحال مع هدنة شباط الماضي. فعوامل تفجيرها متوفّرة، خاصة في ظل ما يُشاع عن انتهاكات لها تقع من قبل هذا الطرف أو ذاك. ويبدو أن الروس ينتظرون تنفيذ الولايات المتحدة التزاماتها وفق «اتفاق لافروف ـ كيري» الأخير في التاسع من أيلول الحالي، ولذلك نجد بيسكوف يشدّد في تصريحاته على أن «الهدف الرئيس حالياً هو أن ننتظر الفصل بين المعارضة المعتدلة والتنظيمات الإرهابية». فالكرملين يستبعد إحراز أي تقدم من دون تحقيق هذا الهدف، الذي جرى الاتفاق عليه مع واشنطن.
قبل تصريحات الكرملين هذه، أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن بلاده ترغب في نشر مضمون الاتفاق مع الجانب الأميركي علناً، مؤكداً أن واشنطن، على العكس، ترغب في جعله سرياً. ولم تُعلق واشنطن على تصريح لافروف هذا، بينما اكتفى وزير الخارجية الأميركية جون كيري، في تصريحات صحافية الأربعاء 14 أيول الحالي، بالتأكيد على أن الرئيس الأميركي يدعم الاتفاق مع روسيا. لكن لا يُخفَى أن هذا الاتفاق تسبّب في تعميق الخلافات داخل الإدارة الأميركية. فوزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر، بحسب وسائل إعلام أميركية، يشكك كثيراً في جدوى الاتفاق ويرى أنه لا يتعيّن الثقة بموسكو. واللافت أن جون كيري في تصريحاته وصف الاتفاق الأخير مع لافروف بالصفقة، معتبراً أن وتيرة الضربات التي تتعرّض لها المعارضة السورية المعتدلة من قبل النظام السوري والقوات الروسية ستدفعهم أكثر إلى أحضان «النصرة» و «داعش». وفي هذا السياق، تبدو الولايات المتحدة غير متعجلة في تحقيق «الفصل» الذي تُطالب موسكو به.
ترى أوساط صحافية وسياسية في موسكو أن حرص الولايات المتحدة على عدم نشر وثيقة هذا الاتفاق يؤشر إلى أن واشنطن قد تكون قدّمت تنازلات للطرف الروسي تمس المعارضة السورية أو مصير الرئيس السوري والتسوية في سوريا. لكن المنطق يقول إنه من غير الممكن أن تظل بنود هذا الاتفاق سرية على الدوام، لأنها ستتضح على الأرض عند التنفيذ. ويمكن النظر إلى تصريح لافروف المذكور أعلاه على أنه نوع من الضغط على واشنطن للوفاء بالتزاماتها المُتضمنة في الاتفاق، في ظل تصريحات أميركية تُحمل موسكو المسؤولية الرئيسية عن تنفيذه وضمان التزام النظام السوري به. وفي هذه الأجواء يكون مشروعاً أيضاً التساؤل عن سبب التزام الجانب الروسي بعدم نشر الاتفاق علناً نزولاً عند طلب واشنطن، والاكتفاء بالتعبير عن الرغبة فقط في عمل ذلك.
الكثير من وسائل الإعلام الروسية تُركّز هذه الأيام على أن «اتفاق لافروف ـ كيري» يُعَدّ انتصاراً سياسياً لموسكو على واشنطن. ويعللون ذلك بأن روسيا أثبتت أن مكانتها الدولية في تصاعد عبر الورقة السورية، حيث تم إفشال خطط الولايات المتحدة بعزل موسكو على الساحة الدولية في أعقاب الأزمة الأوكرانية. لا شك في أن المكانة الدولية لموسكو ارتفعت كثيراً، لكنها تظل غير قادرة على حسم الوضع في سوريا بمفردها وبشكل نهائي. ويرى بعض الخبراء الروس أن موسكو، لو كانت قادرة على الحسم في سوريا، لما لجأت إلى التفاوض مع الولايات المتحدة. وفي هذا القول بعض المنطق، خاصة أن التدخل العسكري الروسي في سوريا يقترب من إنهاء عامه الأول نهاية هذا الشهر. وينطبق هذا المنطق كذلك على الولايات المتحدة، غير الراغبة أو غير القادرة، على وضع نهاية للأزمة السورية. وإذا أدخلنا إلى هذه اللوحة تعدُد المُعارضات المسلحة على الأرض السورية وتعدُد اللاعبين الإقليميين ورؤية النظام السوري وحلفائه الخاصة بالحل التي تتباين بوضوح مع رؤية المعارضة السياسية والعسكرية، يمكن فهم الأسباب الرئيسية التي تُعرقل التسوية السورية.
إن واشنطن لا تتعجل التوصل إلى حل سياسي في سوريا قبل أن تنتهي فترة حكم إدارة باراك أوباما. فهذه الإدارة تُماطل بهدف نقل الملف السوري برمّته إلى الإدارة الأميركية الجديدة، برغم أن فريقاً من الخبراء الروس لا يزال متفائلاً بأن أوباما يرغب في تحقيق تسوية في سوريا في ظل حُكمه، حتى يُسجل بعض النقاط لنفسه ولحزبه «الديموقراطي» في المعركة الانتخابية أمام ترامب «الجمهوري». ونعتقد أن إدارة أوباما لن تخسر كثيراً من هذه المُماطلة، حيث لا تزال واشنطن تراهن، بدرجة أو بأخرى، على أن إطالة وقت العملية العسكرية الروسية في سوريا قد يُكلف موسكو خسائر تزيد من الضغط عليها خلال أي مفاوضات مقبلة، سواء بشأن الأزمة السورية أو غيرها من الأزمات العالقة بين البلدين. لكن الروس، في جميع الأحوال، يعتبرون أن خسائرهم في سوريا ليست كبيرة وأنهم قادرون على تحمل خسائر أكبر منها. فهم دخلوا عسكرياً وسياسياً إلى سوريا ليبقوا لمدة طويلة، كما يردد عسكريون روس.
برغم الاتفاق الأخير بين لافروف وكيري، نعتقد أن كلاً من الجانبين، الأميركي والروسي، يواصل فهم الحل السياسي في سوريا على طريقته الخاصة، ويُفسر القرارات الدولية وغيرها من قرارات وتفاهمات وفق مصالحه. فالوضع الراهن يعكس بوضوح مأزق التفاهمات الروسية الأميركية السابقة والحالية حيال كيفية حل الأزمة السورية. ولذلك لا يمكن التفاؤل، للأسف، بأن الهدنة الحالية «تبعث على الأمل في توفير الظروف الملائمة للحوار السياسي». فإذا كانت الهدنة الحالية هشة، يُضحي منطقياً تصور مدى هشاشة أي توافقات سياسية مستقبلية بشأن سوريا.
نشرت للمرة الأولى في "السفير"