التسميم الغربي للحضارة العربية

28.07.2017

إن رؤية العرب لحقائق عالم اليوم متأصلة في نهجهم تجاه تاريخهم وثقافتهم وحضارتهم. وبما أن العديد من نقاط التحول لهذا التراث هي من غير العرب المسلمين مثل ابن سينا ​​في الطب والفلسفة وأبو حنيفة في الفقه أو الخيام في الرياضيات وعلم الفلك، فالقضية هي ماذا ندعو هذا التراث؟! عربياً أم مسلماً، هذا التراث الذي يدين في معظم الأحيان لغير العرب. وهذا موضوع آخر يتعين مناقشته.
ومع ذلك، فإن العرب يعتبرون هذا التراث تراثا عربياً حقاً، و سندرس هنا كيفية تشكيلهم لوجهة نظرهم. 
بدأت الحضارة الحديثة في الظهور في أواخر القرن الثامن عشر. وسرعان ما اكتشف العالم العربي أن هذا الضيف الجديد لن يواكبهم، بل سيقلل من شأنهم وسيهينهم بل و سيسحبهم إلى الوراء. كان هذا السلوك المضطرب ناتجاً عن الكره الذي يحمله الغربيون في قلوبهم ضد المسلمين لقرون عديدة. وشعروا بأنهم أقوى وأكثر تقدمية، وأن الوقت قد حان للانتقام التاريخي. على الرغم من أن المسلمين في الماضي، حكموا الجزء الجنوبي والشرقي من العالم المسيحي فقط، ولكن الغرب والفاتيكان شعروا بأنه قد تم غزوهم  بقدر ما كانت هذه المناطق جزءا مهما من العالم الكاثوليكي.

في الوقت نفسه، كان هناك بعض المستشرقين الذين بدأوا الدراسات الإسلامية بهدف إيجاد وسيلة لقمع هذه الحضارة. وقد تم هذا المسعى بالتوازي مع الحفريات الأثرية التي كان يمارسها الغربيون لاكتشاف الحضارة الإسلامية، والتي كانت تسمى الحضارة العربية. وقد أثارت حفريات الغربيين واكتشافاتهم لهذا التراث دهشة العرب أكثر من أي شخص آخر ، وخاصة أن هذا التراث كان يجري إدخاله كأساس للحضارة الغربية. ولو كانت مسألة التراث تعود إلى الماضي فقط، لما كانت ملفتة للنظر، ولكن عندما تم تقديمها كأساس للحضارة الغربية، شعر العرب بالفخر لدرجة أن الغرب مدينون لهم. شعروا بأنه قد تمت إهانتهم بسبب ما كانوا عليه من الحضارة في الماضي، و من ناحية أخرى كانوا معجبين بتاريخهم وتراثهم الماضي.

وفي ظل هذه الظروف، لم يكن أمام العرب، بحساسيتهم وفخرهم الخاص، أي خيار سوى أن يدعوا ما كانوا معجبين به بالتراث والتاريخ العربي. كانوا يهربون من الحاضر ويجدون الملجأ في التاريخ والتراث القديم الذي بدأ منذ ذلك الحين يشكل نوعاً من التسمم الغربي.
كانت هذه هي الطريقة الوحيدة التي وجدها  العرب للهروب من إهانات وإذلال الغرب لهم. وهكذا، ركزوا على تاريخهم، الذي كان له آثار جانبية سلبية على عقولهم ومستقبلهم. فقد كان المرء ينظر إلى نفسه من وجهة نظر الغربيين، وهذا ما تسبب في الكثير من المشاكل بالنسبة لهم و التي لا يزالون يعانون منها حتى الآن. هذا النهج تجاه أنفسهم لم يتوقف على تاريخهم، بل أثر على جوانب أخرى من حياتهم الحالية وحتى بالنسبة لقضاياهم الدينية.
من غير المعروف أن القيم الغربية بدأت تعتبر معايير لكل شيء، وحتى القيم الإسلامية تم تقييمها على أنها غربية. لقد كافح مفكروهم لإثبات أن الإسلام يعلم الأشياء التي يقبلها الغرب الحديث. ولهذا السبب، أصبح من المهم جدا بالنسبة للعرب أن يتصرفوا بطريقة يعترف بها الغربيون ويعجبون بها.
في وقت لاحق، وعندما ظهر عرب منطقة الخليج العربي وثرواتهم النفطية التي وضعتهم في مركز اهتمام العالم العربي، كان تسممهم الغربي أسوأ من الآخرين. فصحيح أن جميع بلدان العالم الثالث تقريبا كانت غربية نوعا ما، ولكن هذا لم يغير روحها وانطباعاتها.  فمثلا كان هناك نفوذ من الغرب في إيران، ولكن هذا لم يحول الناس العاديين إلى الإيمان بالغرب جوهريا. وفي الوقت نفسه كان المجتمع يعيش  بنمط الحياة الغربية، ولكن جميع العناصر الدينية والوطنية لمقاومة هيمنة القيم الغربية بقيت كما هي. كانت الثورة الإسلامية في إيران رد فعل على هذا الواقع الخفي القوي جدا والروح التي لم يتم تسميمها والتي لا يمكن أن تكون غير محترمة. ومع ذلك، فإن شيوخ الخليج العربي كانوا مختلفين، وهم قبائل كانت تتحرك من جانب إلى آخر في شبه الجزيرة  بطريقة حياة البدو في الوقت الذي كانت فيه الأراضي تحت سيطرة العثمانيين. وأقدم هذه البلدان هي المملكة العربية السعودية، التي تشكلت كدولة في عام 1932. لم يكن لديهم تاريخ وطني أو فن أو عمارة أو حضارة. ولكن بسبب كونها دولة عربية وتتحدث اللغة العربية وانضمت إلى العالم العربي، فإنها يمكن أن تكون جزءا من الحضارة العربية.

والمثير للدهشة أن البعض الآخر اعتبرهم عرب أكثر من السوريين أو المصريين أو التونسيين لأنهم كانوا يعرفون العرب برموز محددة مثل الملابس  والجمال والصحراء والسيوف وغيرها من العناصر. وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل العرب في الخليج العربي يصرون على هذه العناصر، وتحديدا ملابسهم، ويحاولون الاحتفاظ بقمصانهم وشعاراتهم العربية الطويلة. وقد ساعد ذلك ولا يزال يساعدهم في اعتبارهم ذروة العالم العربي والحضارة العربية حتى وبالرغم من أنه لم يكن لديهم دور في خلقه إلى جانب ادعاءهم بأن الإسلام انتشر عن طريقهم إلى أماكن أخرى قبل خمسة عشر قرنا.
وقد حافظوا على مظهرهم العربي وأصروا عليه أثناء نظرهم إلى كونهم عربيين من وجهة نظر غربية. وبعبارة أخرى، لم يلبسوا مثل الغربيين، لكنهم حاولوا أن يصبحوا "العرب المتأثرين بالغرب". وكان هذا هو أشد أنواع التسمم من الغرب، حيث بدت حياتهم عربية في غلافها، لكنها بنيت على هوية غربية  لم يدركوها، هنا، كان التسمم نتيجة إيمان قوي في الغرب.
وكان التأثير الثاني لهذا الرأي هو الابتعاد عن الحقائق القائمة والقضايا والمشاكل الملموسة من خلال الطعن في مرتبة الشرف التي لا يمكن الوصول إليها من الماضي. لقد كافحوا من أجل تفسير قضاياهم وظروفهم الحالية من خلال تاريخهم العظيم وحاولوا إعادة بناء ذلك. وهذا ما جعلهم يفقدون أحلامهم وقصص ماضيهم. فبالنسبة لهم، كانت الحاجة الماسة لتغذية أرواحهم تلبى من خلال احترام الآخرين لهم. أما عن أوجه القصور والنواقص التي عاشوها في حياتهم الحالية، فلم يجدوا أي شيء آخر يطابقها إلا التراث العربي. وهذا ما جعلهم يهملون وينسون مشاكلهم وحقائقهم الحالية، ولا يكلفون أنفسهم عناء العناية بهم.
أما المثقفون العرب والطبقة المستنيرة منهم فيتم استخدامهم  دائما لاتهام أممهم بالرجعية وعدم الانطلاق نحو الحياة الحديثة. وفي الوقت نفسه، على العكس من ذلك، كانت المشكلة مع هؤلاء المدعوين بالمثقفين، والذين رأوا كل شيء كما فعل الغربيون وعرفوا سوء فهم ماضيهم وحاضرهم. والمثير للدهشة أنهم اتهموا شعبهم بالرجعية، بينما كانوا أنفسهم، أكثر من غيرهم، عاشوا في الماضي بقدر ما كانوا ينظرون إلى حياتهم الحالية من خلال نوافذ ماضيهم. كانوا يعتقدون أنهم يستطيعون أن يفعلوا ما فعله آبائهم في الماضي ليهزوا مهد الحضارة مرة أخرى. ومع ذلك، فإن الأحداث على أرض الواقع تعلمهم دروساً مفزعة.