السوق الإيرانية في العراق
هدّد صعود "الدولة الإسلامية" وتوسّعها في الأراضي العراقية الطرق التجارية بين إيران والعراق، والتي كانت قد ازدهرت خلال العقد المنصرم لأن الأسواق العراقية ظلّت مفتوحة في غالبيتها عندما تسبّبت العقوبات بإغلاق الأسواق المحتملة الأخرى أمام الصادرات الإيرانية. بحسب منظمة ترويج التجارة الإيرانية، ارتفعت قيمة الصادرات الإيرانية غير النفطية إلى بغداد – منها الأغذية، ومواد البناء، والمركبات السيّارة، من جملة منتجات أخرى - من 2.3 مليارَ دولار في العام 2008 إلى6.2 مليارات دولار في العام 2015. في الوقت نفسه، أتاح صعود تنظيم "الدولة الإسلامية" فرصاً جديدة أمام التجّار الإيرانيين: تراجعت علاقات بغداد التجارية والديبلوماسية مع جيرانها الآخرين، ويحمل الوجود العسكري الإيراني المتزايد في العراق وعوداً بمزيد من المكافآت التجارية في المستقبل.
بعد تشديد العقوبات على القطاع النفطي الإيراني في العام 2012 وتدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد، تحدّث المرشد الأعلى علي خامنئي في شباط/فبراير 2014 عن مبادئ "اقتصاد المقاومة"، ما سلّط الضوء على تعزيز الصادرات غير النفطية للحد من اعتماد البلاد الشديد على الإيرادات النفطية، إلى جانب أهداف أخرى. واقع الحال هو أن الجوار الجغرافي مع العراق، وسكّانه الشيعة في الشمال، يجعلان السوق العراقية وجهةً مثالية لإيران في إطار محاولاتها الآيلة إلى الوصول إلى الاقتصاد العالمي، وقد امتصّت السوق العراقية بصورة متزايدة الصادرات الإيرانية غير النفطية، فساعدت إيران على ما يبدو على تطويق العقوبات. وعلى هذا الأساس، سعت إيران إلى إنشاء مناطق للتجارة الحرة في إقليم خوزستان في الجنوب الغربي بهدف تعزيز التجارة مع بغداد. بلغت قيمة التجارة بين البلدَين 12 مليار دولار في العام 2015، بما في ذلك السياحة، وخدمات الهندسة، وبضائع الترانزيت – أي السلع التي تتم المتاجرة بها عن طريق شريك ثالث، والتي تشتمل في جزء منها على الأرجح على تهرّب من العقوبات. تطمح إيران إلى زيادة قيمة العلاقات التجارية إلى 25 مليار دولار في السنوات المقبلة.
استمرّت التجارة غير النفطية بين إيران والعراق في النمو حتى أواخر العام 2015، بعد استيلاء الدولة الإسلامية على الموصل في حزيران/يونيو 2014، ولو بوتيرة أبطأ بالمقارنة مع كانت عليه قبل توسّع الدولة الإسلامية والهبوط الشديد في أسعار النفط العالمية. مع استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية على مزيد من الأراضي في شمال العراق وقطع الطرقات التجارية بين تركيا والعراق، أفادت إيران من زيادة حجم تجارة السلع الأساسية عبر الحدود. فضلاً عن ذلك، ونتيجة تصاعد حدّة التشنجات بين بغداد من جهة وتركيا والسعودية من جهة أخرى، أصبحت إيران في موقع جيواقتصادي أفضل من البلدَين اللذين يُعتبران خصمَين لها. وقد ذكرت تقارير أنه في منتصف العام 2014، بدأ بعض التجّار العراقيين يستبدلون البضائع السعودية بأخرى إيرانية، انطلاقاً من اعتقادهم بأن المملكة تدعم تنظيم الدولة الإسلامية. فضلاً عن ذلك، وافق مجلس مدينة بغداد على مقاطعة استيراد السلع من تركيا بعد أيام قليلة من قيام أنقرة بنشر قوات في المواصل بهدف إجراء تدربيات في الخامس من كانون الأول/ديسمبر 2015.
بيد أن الواردات العراقية من إيران تواجه أيضاً مخاطر جيوسياسية محتملة. فالصادرات الإيرانية غير النفطية تصل في معظمها إلى السوق العراقية من خلال سبع نقاط تفتيش حدودية، كما أن 80 في المئة من الصادرات الإيرانية غير النفطية إلى العراق تمرّ عبر النصف الشمالي من الحدود. بحسب مهدي نجات-نيا، المتحدث باسم مكتب الشؤون العراقية في منظمة ترويج التجارة الإيرانية، دخلت بضائع بقيمة 3.5 مليارات دولار العراق عن طريق معبر پرويزخان الحدودي في شمال البلاد بين آذار/مارس وكانون الأول/ديسمبر 2015، من أصل 4.5 مليارات دولار تشكّل مجموع الصادرات الإيرانية إلى العراق خلال تلك الفترة. كانت هذه الطريق التجارية عرضة على وجه الخصوص للسيطرة عليها في إطار التوسع الأولي لتنظيم الدولة الإسلامية في الشمال الشرقي باتجاه إقليم كردستان العراق والحدود الغربية لإيران، الأمر الذي كان من شأنه أن يهدّد الصادرات الإيرانية غير النفطية. رداً على هذا التهديد الاقتصادي – وليس فقط التهديد الأمني – من جملة أمور أخرى، عمدت طهران إلى تعزيز حضورها العسكري في العراق في العام 2014، وإلى التنسيق مع قوات البشمركة الكردية العراقية للتصدّي لتوسع تنظيم الدولة الإسلامية.
في المقابل، أصبحت المحافظات الجنوبية في العراق أكثر جاذبية للتجّار الإيرانيين الذين يبحثون عن طرق موثوقة للتصدير. تسبّب تقدّم تنظيم الدولة الإسلامية في شمال العراق ووسطه بعرقلة التجارة بين تركيا والجزء الجنوبي من العراق، ما أدّى إلى زيادة الطلب على البضائع الإيرانية للتعويض عن تعطّل الإمدادات التجارية مع تركيا. بما أن التجارة الإيرانية أعطت الأولوية للطرقات الشمالية التي تمر عبر إقليم كردستان العراق، لم يجرِ تطوير الشحن البري وإمكانات التخزين بدرجة كافية في الجنوب العراقي ذي الأكثرية الشيعية من أجل استيعاب كل الصادرات غير النفطية التي تريد إيران إرسالها إلى هناك. بلغت قيمة البضائع التي تمت المتاجرة بها عن طريق معبر شلمچه الواقع بين البصرة وخوزستان، مليار دولار أميركي في العام الفارسي 1394 (21 آذار/مارس 2015 إلى 20 آذار/مارس 2016)، من أصل 6.2 مليارات دولار هي مجموع الصادرات الإيرانية إلى العراق في ذلك العام. بناءً عليه، يعطي صنّاع السياسات الإيرانيون الأولوية لتنويع طرقات الشحن البري بعيداً من الشمال الغربي من أجل الحد من المخاطر الأمنية وتوسيع سوقهم في جنوب العراق.
فضلاً عن ذلك، المتعاقدون الإيرانيون متفائلون بشأن الآفاق المتاحة أمامهم لتنفيذ مشاريع في المستقبل في العراق. يوجّه التقدّم الذي حقّقته قوات الحشد الشعبي المدعومة من إيران ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق خلال العامَين المنصرمين، إشارة إيجابية إلى المنتجين والمتعاقدين الإيرانيين بأنه ستكون لطهران حصّة في خطط إعادة إعمار البلاد بعد النزاع.
بيد أن الصادرات الإيرانية إلى العراق وحجم الحصة الإيرانية في عملية إعادة الإعمار يتوقّفان على التركيبة السياسية للمعسكر الشيعي في العراق، والتي طرحت مخاطر سياسية جديدة خلال الأشهر القليلة الماضية. فمنذ حل البرلمان العراقي في نيسان/أبريل 2016، تعاظمت وتيرة الخطاب الشعبوي والمناهض لإيران، وتُمارَس ضغوط متزايدة على البرلمان العراقي الجديد لفرض إجراءات حمائية في مواجهة الصادرات الإيرانية غير النفطية. يُشار إلى أنه طُبِّقت في السابقإجراءات تجارية حمائية (حواجز جمركية وغير جمركية) وسط الهبوط الشديد في أسعار النفط، مثل زيادة التعرفات الجمركية على واردات إيرانية محددة. وقد أعربت شهلا عموري، رئيسة غرفة التجارة في مدينة أهواز، عن القلق بشأن التدابير الحمائية العراقية في حزيران/يونيو 2016 مشيرةً إلى أنه من شأن زيادة الحواجز الجمركية على بعض الواردات، لا سيما مواد البناء، بمعدل ثلاثة أضعاف، أن يؤدّي إلى انخفاض مجموع الصادرات الإيرانية إلى العراق.
لقد أثّرت هذه الإجراءات في شكل خاص في تجارة الإسمنت. أصدرت بغداد مرسومَين تنفيذيين في العامَين 2013 و2015 لوقف استيراد الإسمنت (إلا في "حالات استثنائية") من أجل حماية الإنتاج الداخلي. على الرغم من أن المرسومَين لم يُطبّقا بحذافيرهما، بسبب الخلافات السياسية والفساد، إلا أن منتجي الإسمنت الإيرانيين شعروا بتداعياتهما. فنظراً إلى الركود في القطاع السكني الإيراني،الطلب الداخلي على الإسمنت ضعيف، ويعتمد المنتجون في شكل كبير على السوق العراقية حيث تسبّب حظر استيراد الإسمنت بتراجع صادرات الإسمنت الإيرانية بنسبة 20 في المئة في العام 2015. لكن بحسب عبدالرضا شيخان، أمين عام نقابة منتجي الإسمنت الإيرانية، ذهب 50 إلى 70 في المئة من صادرات الإسمنت الإيرانية إلى العراق بين آذار/مارس 2014 وآذار/مارس 2016 (العام 1393-1394 بحسب الروزنامة الفارسية)، مشيراً إلى أنه بغض النظر عن الإجراءات الجديدة، سيظل العراق يعاني من عجز في الإسمنت يتراوح عند حدود 7-8 ملايين طن في السنة يجب تغطيته عن طريق الواردات. وتوقّع في السادس من حزيران/يونيو أن يُستأنَف تصدير الإسمنت إلى العراق بعد انقضاء شهر رمضان.
رداً على الحمائية العراقية المتزايدة، وبعد تراجع الصادرات الإيرانية إلى العراق بنسبة ستة في المئة في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الفارسي الجاري، أعلنت إيران في أيار/مايو 2016 أنه سيتم إنشاء منطقة للتجارة الحرة عند معبر شلمچه في إطار منطقة أروند الحرة الأوسع نطاقاً. في الوقت نفسه، سوف تستمر إيران في ممارسة ضغوط لدى بغداد من أجل خفض التعرفات الجمركية على الصادرات.
إذا عمّ الاستقرار في العراق وسط أجواء مؤاتية لصعود القوى الشيعية، قد تتمكّن إيران من اكتساب نفوذ اقتصادي أكبر، ليس في العراق وحسب إنما على الأرجح في سورية ما بعد النزاع من خلال طرقات للشحن البري أكثر أماناً وتنوّعاً. من شأن الإمكانات الصناعية المتعثّرة في العراق وسورية أن تمنح زخماً للاقتصاد غير النفطي وقطاعات التصدير في إيران بما يتيح لها تخطّي مشكلة البطالة التي تعاني منها. وهكذا ستستمر التجارة، في خضم الاضطرابات، في تأدية دور مهم في رسم علاقات إيران السياسية والأمنية مع جارها الغربي.
مركز "كارنيغي"