الغزل الروسي التركي ودوافعه
المُتابع لتطورات الأزمة الروسية التركية منذ إسقاط أنقرة في خريف العام الماضي للقاذفة الروسية، يُلاحظ أن الأسابيع الأخيرة تشهد غزلاً واضحاً بين بوتين وأردوغان. فقد استغل الرئيس التركي مناسبة العيد الوطني لروسيا مؤخراً وبعث برسالة تهنئة إلى نظيره الروسي، تمنى فيها «عودة العلاقات بين موسكو وأنقرة إلى طبيعتها في الفترة المقبلة وانتقالها إلى المستوى اللائق».
وعلى الجانب الآخر، عبّر بوتين في نهاية شهر أيار الماضي أثناء زيارته لليونان عن «رغبة بلاده في استئناف العلاقات مع أنقرة»، مشيراً إلى «أنه ينتظر من الجانب التركي خُطوات محددة». وخلال المؤتمر الصحافي المشترك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي في 7 حزيران الجاري بموسكو، أكد بوتين أن بلاده لم تتراجع بعد عن مشروع خط أنابيب غاز «السيل التركي» الجديد، مشيراً إلى وجود بعض المشاكل السياسية بين موسكو وأنقرة، تُعيق تنفيذ المشروع. كما أكد دعمه للمصالحة وتطبيع العلاقات بين تركيا وإسرائيل، ما يدفع للاعتقاد بأن تل أبيب تدعم أيضاً المصالحة الروسية التركية، وربما تلعب دوراً فيها.
إن دوافع الجانبين الروسي والتركي لاستئناف العلاقات وتطبيعها تتعلق بعوامل سياسية واقتصادية. فتركيا تُعتبر أحد الخاسرين الكبار من جراء التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا وتغييره لموازين القوى. فقد بات المجال الجوي السوري مستعصياً على سلاح الجو التركي. وفي حال إغلاق الحدود البرية التركية السورية، وهو ما تطالب به موسكو، ستُحرم أنقرة بدرجة كبيرة من لعب أي دور عسكري في الداخل السوري. كما أن موسكو لا تخفي «اللعب» بالورقة الكردية سواء داخل سوريا أو داخل تركيا نفسها. يُضاف إلى ذلك غضب أنقرة الشديد من موقف واشنطن تجاه الأزمة السورية ودعهما العسكري المباشر لقوات «سوريا الديموقراطية»، التي يُغلب الأكراد على تركيبتها. ويشعر أردوغان، في غالب الظن، بأن الموقف الأميركي من الوضع في سوريا والتدخل العسكري الروسي المباشر في الأزمة قد أطاحا عملياً الكثير من طموحاته الإقليمية. ومن ثم لا يبقى أمامه إلا محاولة تحسين العلاقات مجدداً مع موسكو على أمل تحصيل أي مكسب في أي تسوية مستقبلية محتملة.
ترتبط مع الدوافع السياسية لاستئناف العلاقات وتطبيعها بين موسكو وأنقرة، دوافع أخرى ذات طبيعة اقتصادية. فالعقوبات الاقتصادية التي فرضتها روسيا على تركيا في أعقاب حادثة الطائرة، أثرت سلباً على قطاعات اقتصادية تركية عدة، منها السياحة والبناء والصادرات الغذائية. كما تعرضت شركات البناء التركية العاملة في روسيا لعقوبات أيضاً. ووصلت التقديرات الأولية إلى أن خسائر أنقرة من جراء هذه العقوبات لن تقل بأي حال من الأحوال عن 10 مليارات دولار. فقد تراجع عدد السياح الروس إلى تركيا بأكثر من 80 في المئة، وذلك بعدما كان عددهم قد بلغ أكثر من ثلاثة ملايين سائح. وهذا يُفقد تركيا نحو 3.5 مليارات دولار سنويا من الإيرادات السياحية. لذلك، فإن العديد من رجال الأعمال الأتراك، الذين اعتادوا على العمل في السوق الروسية، يُظهرون امتعاضاً من سياسة أردوغان تجاه روسيا، حيث تكبدوا خسائر غير قليلة من أزمة العلاقات بين البلدين. لقد تضررت روسيا أيضاً من العقوبات التي فرضتها على تركيا، وإن بدرجة أقل. فحظر السلع الغذائية والفواكه والخضروات التركية أدى إلى ارتفاع الاسعار الداخلية في روسيا. علماً أن بوتين، عندما فرض العقوبات ضد تركيا، حرص على عدم مساسها بالسلع الصناعية التركية وصادرات الغاز الطبيعي الروسي لعدم الإضرار بالاقتصاد الروسي بدرجة أكبر، والذي يعاني أصلاً من العقوبات الغربية وتراجع أسعار النفط العالمية.
إن تعليق العمل بخط أنابيب «السيل التركي» الجديد لنقل الغاز الروسي إلى تركيا يمثل كذلك خسارة للجانبين. فالروس كانوا يراهنون على نقل كمية الغاز نفسها التي كانت مخصصة لمشروع «السيل الجنوبي»، الذي عارضه الاتحاد الأوروبي، ونقلها بواسطة خط الأنابيب الجديد عبر البحر الأسود باتجاه تركيا، منها 14 مليار متر مكعب سوف تبقى في تركيا، فيما تذهب الكمية المتبقية باتجاه اليونان ومنها إلى أوروبا. وبالطبع، فإن الأزمة الأوكرانية لعبت دوراً مهماً آخر في تشدد الاوروبيين تجاه «السيل الجنوبي»، حيث كان من المفترض أن يعمل هذا المشروع بكامل طاقته في العام 2018، وحينئذ كانت ستخرج أوكرانيا تماماً من لعبة نقل الغاز الروسي الى أوروبا. أما أنقرة فقد كانت تراهن، من جانبها، على أن خط أنابيب نقل الغاز الروسي الجديد إليها وعبرها سيمنحها فرصة التحول مستقبلاً إلى وسيط كبير لبيع الغاز الطبيعي الروسي، حيث سيمر الغاز عبرها إلى الاتحاد الأوروبي. وكان هذا الأمر سيُعطيها شعورا بالثقة الكبيرة في بعض الملفات تجاه الاتحاد الأوروبي. إن وقف تنفيذ هذا المشروع يمثل أيضا خسارة للروس، وذلك في ظل وقف مشروع «السيل الجنوبي»، وفي ظل تراجع أسعار الغاز الروسي إلى أوروبا في الفترة الأخيرة. فقد انخفضت هذه الأسعار في الربع الأول من العام الجاري مقارنة بالفترة نفسها من العام 2015 بأكثر من 50 في المئة. ولتعويض هذا التراجع في الأسعار، تحاول روسيا الاعتماد أكثر على زيادة كميات الغاز المُصدرة إلى الخارج.
برغم الغزل الروسي التركي الحالي، يشترط الكرملين لإنجاز المصالحة مع تركيا اعتذار الأخيرة عن إسقاط الطائرة الروسية ودفع تعويضات عن هذا الحادث. ولا يخفى أن قنوات الاتصال بين البلدين استمرت برغم الأزمة بينهما. وربما تبحث هذه الاتصالات حالياً صيغة ما لهذا الاعتذار، تحفظ ماء وجه قيادتي البلدين. وسواء جرى استئناف العلاقات وتطبيعها بين موسكو وأنقرة باعتذار أو شبه اعتذار من قبل أردوغان، فإن الوضع في سوريا سيترك بصماته في جميع الأحوال على هذه العملية، خاصة في ظل تحول تركيا الواضح من استراتيجية هجومية في الأزمة السورية إلى استراتيجية يمكن وصفها بالسلبية أو الدفاعية، تحاول الخروج من هذه الأزمة بأقل الخسائر الإقليمية والداخلية.
جريدة "السفير"