البُعد الاستراتيجي للتجاذبات السياسية شمالي شرق سوريا
يبدو واضحاً أن سوريا الموقع والدور الإقليمي المؤثر والفاعل، شكّلت مدخلاً لرسم مشاهد الشرق الأوسط وخطوطه العريضة، حتى أن سوريا باتت ساحة لتنفيس حالات الاحتقان الإقليمي والدولي عبر الوكلاء، وهذا ما يُهدد حقيقةً إمكانية التوصل إلى حل بشأن الحرب على سوريا. ورغم ذلك فإن الحالة السياسية السورية القادرة على جمع التناقضات الإقليمية والدولية، وترجمتها مسارات واقعية، ستُثبت قُدرتها على تفسير الظواهر المُعقدة والراهنة، وصوغ حلول سياسية أو بدائل عسكرية، وذلك انطلاقاً من قُدرة الدولة السورية على إدارة مستويات الصراع في سوريا وعليها. وهذا ما تم إثباته بدلائل قاطعة، حيث أن الرئيس الأسد تمكن وبقدرة استراتيجية من توظيف وإدارة وتفكيك كافة المعادلات الجيوسياسية المتربصة بالدولة السورية، وتشكيل نماذج من التوازنات، ستكون بلا ريب بوابة لحلول سياسية، وأنموذج اقتصادي مؤثر على مستوى الإقليم.
أن الحالة السورية بوصفها السياق الرئيس في بناء المعادلات الإقليمية والدولية، قد باتت ناظمة ووفق الموقع الجيو-استراتيجي لسورية، لكافة حالات الصراع والتنافس على المستوين الإقليمي والدولي، وبالتالي فإن الصراع والتنافس على سورية باعتبارها عاملًا مرجّحًا في توازنات المنطقة، سيكون له الأثر الحاسم في تحديد مآل الأزمات الشرق أوسطية، والمسارات التي يمكن أن تسلكها مستقبلًا.
من هنا. لا يمكن الإنكار بأن العلاقات الثنائية الروسية الأمريكية تسعى في مضامينها للابتعاد عن المواجهة العسكرية ضمن أي بقعة جغرافية في سوريا، مع بقاء الحماس السياسي بين الطرفان في مستويات تنافسية. وعليه لا يمكن التنبؤ بمسار المرحلة الحالية، ولا يمكن اكتشاف أي سيناريو في ظل فوضوية التوجهات الأمريكية في المنطقة. لكن في معنى الانتصار السوري، برزت مُعادلات ستؤطر بموجبها الكثير من التوجهات الأمريكية في سوريا، وهذا ما يجعل الفضاء السياسي لمنظومة العلاقات في حالة شد وجذب، في ظل التنافس الجيوسياسي، خاصة أن واشنطن فشلت في تطبيق أجندتها في سوريا، وفشلت بالمقابل في تعزيز موقفها السياسي لدى شركاؤها الإقليميون وأداتها الكردية، وعليه . يبدو أن التفاعل السياسي البناء وإن كان متردداً بين موسكو وواشنطن، لكن التفاعل بين جيشي البلدين في طريقه للتراجع في سوريا، وربما يُنظر إليه على أنه لم يعد ضرورياً. خاصة في ظل المعطيات التي تفرض نفسها في الشمال السوري.
في هذا الإطار. لم تعد الحرب على سوريا وإرهاصاتها بوابة لتوازنات اقليمية ودولية جديدة فحسب، بل ساهمت تداعيات الحرب على سوريا، برسم منحى جيوسياسي ناظماً للإصطفافات والتحالفات الوليدة في المنطقة، فقد باتت موازين القوى هي العامل الحاسم في تقوية بنية التحالفات، وتوجيه السياسات الخارجية. وبالتالي فإن جوهر الصراع بين روسيا والولايات المتحدة بوصفهما قطبان يوازي كل منهما الأخر سياسياً وعسكرياً، وحتى على مستوى التشبيك الاقتصادي، يقوم على تحديد مناطق النفوذ، ورسم المسارات الجيوستراتيجية المُنظمة لحدود العلاقات والتفاعل السياسي والعسكري فيما بينهم.
نتيجة لذلك، فإن المشهد السياسي والعسكري بات مؤطراً في جغرافية الشمال السوري، بين جُملة واسعة من التناقضات الأمريكية والهواجس التركية والضياع الكردي، وبين الرغبة الروسية في إيجاد صيغ للتعامل مع كافة الحلفاء الأفرقاء، ولعل حجم التجاذبات السياسية بين كافة الأطراف، سيكون بل ريب مؤثراً وفاعلاً في بنية ونوعية التحالفات التي ستنبثق بناء على تلك التجاذبات، ففي حين تؤسس روسيا لمشهد توافقي بين دمشق وأنقرة وضمناً الكرد، تُطل واشنطن عبر معادلة سياسية جديدة تحاول من خلالها بعثرة الأوراق السورية والروسية وكذا الإيرانية، في فوضى قانون قيصر، وكعادة ترامب صاحب السياسيات المضطربة والمتناقضة، يحاول إعادة خلط الأورق في مشهد الشمال، وفي جانب أخر يرغب ترامب وعلى الرغم من قراره بالانسحاب من سوريا، ابقاء المشهد السوري تحت منظاره الاستراتيجي بعيد المدى، وإن كان الرجل لا يُظهر مدى توجسه من جُملة المنجزات التي حققتها الدولة السورية وحلفاؤها، لكن جُلَّ سياساته موجهة إلى روسيا وإيران. وعليه لا يزال الشمال الشرقي من سوريا، يرزح تحت عبء السياسيات الدولية المتناقضة، ولا تزال معاني الانتصار السوري على امتداد سنوات الحرب، تؤرق واشنطن وحليفتها الأطلسية تركيا، وتخلق تأثيرات إقليمية ودولية، وتحديات قد تُعيق البدء الفعّلي بخارطة الطريق السياسية.
بين هذا وذاك، يحضر قوياً ما قاله الرئيس السوري بشار الأسد لدى استقباله مبعوث الرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرينتييف في وقت سابق، حيث قال إن "الأطماع الخارجية بدول منطقتنا لم تتوقف عبر التاريخ، والعـدوان التركي الإجـرامي الذي يشنه نظام أردوغان على بلادنا حالياً يندرج تحت تلك الأطماع مهما حمل من شعارات كاذبة، وسنرد عليه ونواجهه بكل أشكاله وفي أية منطقة من الأراضي السورية وعبر كل الوسائل المشروعة المتاحة". وبالتالي فإن ما يقوله الأسد، طال الزمن أم قصر، فلا بد من تحقيقه وبكل الوسائل المشروعة سياسياً وعسكرياً.