البعد الجيوبولتيكي وأثر استراتيجيات الدول العظمى تجاه السودان

14.12.2017

أدت التغيرات الدولية الجوهرية  التي يمر بها النظام العالمي إلى أن يكون القرن الواحد والعشرين هو قرن سقوط (إمبراطورية الغرب العظمى) وصعود قوى دولية جديدة في عالم يسير نحو تعددية قطبية لن تكون فيه "الإمبراطورية البحرية الأطلسية" الفاعل الوحيد في السياسة والاستراتيجيا الدولية، مما يفرز أوضاعا تتطلب مراجعات جذرية في العلاقات الدولية و استبصار الأبعاد الغير مرئية لصناع السياسة الدولية، في عالم أصبح يعتمد في تفاعلاته علي مبدأ القوة وغلبة الكبار من الفاعلين والقادرين علي حماية مصالحهم بقوة الاقتصاد أو السلاح كما يشكل الموقع الجغرافي للدولة وأيضا عنصر قوة أو عنصر ضعف في أوضاع دولية تتميز بالميل إلى احتواء الدول ضمن ما يعرف بالعولمة أو أعادة التنميط ضمن الإمبراطورية الغربية الأطلسية، ولم تكن أفريقيا والشرق الأوسط إلا إحدى الملاعب الجديدة القديمة للتنافس والصراع الدولي ، والسودان جزء من هذا الإقليم الذي يشهد حالة الاستلاب التي تعم المنطقة.
البعد الجيوبولتيكي السوداني
    في التعريف القديم لإقليم السودان نجده يمتد من الحبشة إلى غرب أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ، وبذلك يضم إقليم السودان القديم مساحة شاسعة من الأراضي والثقافات والقيم المشتركة مما يؤهله أن يكون مجالا حيويا للسودان الدولة في عالم اليوم من خلال تأثيره وتأثره الايجابي بالأحداث في هذا الإقليم الكبير.
    يحتل السودان الدولة الحديثة اليوم موقعا مميزا في أفريقيا والعالم العربي حيث أنه بوابة الوصل بين أفريقيا والعالم العربي وخصوصا في (إقليم السودان القديم)، وكما أنه يحتل مساحة واسعة من شواطئ البحر الأحمر ويكتسب عمقا يمتد من أطراف الصحراء إلى إقليم السافنا الغنية وتحده عدة دول عربية وافريقية كما انه مزيج خالص مابين العروبة (القحة) والافريقانية (السوداء) وتتداخل في أطرافة مكونات أثنية لها امتدادات عرقية مع كل دول جواره.
    السودان تاريخيا هو أرض الحضارات القديمة التي يفوق عمرها أكثر من سبعة ألف عام وعرفت بلاده باسم (نوب) وتعني أرض الذهب وعرف في (مروي) القديمة صهر الحديد والمعادن وبني إنسانه الأهرامات التي تطورت لتصل قمتها في أهرامات الجيزة عند مدينة القاهرة ، كما عرفت المدنيات القديمة في الشرق والغرب والوسط السهلي النيلي، فهو بالطبع ليس ظاهرة عابرة ولا عنصرا غير مؤثر بل في قلب الحدث الأفريقي والعمق العربي.
البعد الداخلي  السوداني
    كما أن عامل قوة يحسب للسودان وهو التنوع الاثني والثقافي جعل منه مزيج متجانس من السكان علي تنوع أديانهم ولغاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ، إذ ظل الوسط النيلي السوداني مكانا امثل لتمازج الشخصية السودانية وتلاقح أفكارها وحياتها فأنتجت شخصية تتكامل فيها الروح السودانية ، وإن ظلت الأطراف تتمتع بنوع من التميز المكمل للشخصية السودانية وتملك قدرا من الثقافة اللغوية والاجتماعية التي تميزها، إلا أنها بتميزها تصب في خانه الوحدة الوطنية للسوداني الذي تميزه الملابس والقيم المشتركة التي تراها في كل السودان .
    كما أن النيل والصحراء والغابة والسهول الطينية والرملية والمرتفعات ظلتا علي اتصال داخلي من أمد بعيد، حيث تشكل نوعا من التواصل بين المجموعات السكانية علي اختلاف المشارب وشكل هذا الوجدان الوطني والهوية الجامعة للبلاد، والتي لا يمكن أن تصنفها إلا أنها هوية سودانية خالصة، ومزيج من القيم والعادات والتقاليد الوطنية الصرفة، فلا يمكن أن ندعي إنها (افريقية) خالصة ولا(عربية) صرفة بل (سودانية) وهذا ما يجمع علية كل الباحثين في مجال الهوية الوطنية والمهتمين بالشأن السياسي السوداني .
    محاولات النيل من الهوية السودانية وادعاء أنها تقع في خانة واحدة متميزة كأن تكون عربية إسلامية أو أفريقية مسيحية لم ينجح، فنحن (وحدة في تنوع وتنوع في انسجام) وما ضر السودان وأقعد به إلا محاولات التصنيف الخاطئ للموروثات السودانية، فنحن عرب وأفارقة ومسلمين ومسيحيين نحمل راية الوسط المتزن بين الغابة والصحراء، لا ننفصل عن قضايا الأمة العربية والإسلامية وعالم أفريقيا المشرزم بين الافريقيانية والعروبية.
    وإن نشبت صراعات علي أسس الهوية والدين في البلاد من قبل أن تكون دولة مستقلة، وأفضت هذه إلى انفصال أقاليم جنوب السودان وإعلان دولتها ونزاعات وصراعات حديثة في إقليم دارفور وفي محورها نزاعات الأراضي (حدود الحواكير) وبين الفاعلين التقليديين (المزارعين والرعاة)، إلا أن الصراعات في السودان الحديث كان محركها الأساسي أزمة الهوية بين دعاة مدرستي (العروبة والزنوجة) كما هو الحال في أقاليم (جنوب كردفان والنيل الأزرق)، أو صراع بين التيارات (العلمانية والإسلامية) السودانية وخلافها في طرق إدارة البلاد ونهج القانون الذي يجب أن يحكم ويسود، وضمان حقوق الأقليات .
    إضافة إلي عوامل الدفع الخارجية والتركة الثقيلة بعد خروج المستعمر، إذ لم يتم التوافق علي صيغة جامعة أو بالأحرى (وثيقة المصالح الوطنية) وهو ما قاد البلاد إلي حالة الصراعات الناشبة من عدم الثقة بين الأطراف السودانية، وأفضت إلى تمرد العام 1955م قبيل نيل البلاد استقلالها بعام، والآباء المؤسسين للدولة السودانية لم يتوافقوا علي وضع نظم وطرق فعالة لإدارة البلاد ولم تحدد وتحسم القضايا الكبرى وإنما كان الصراع بين الفرقاء هو بداية الانحدار في هاوية التمرد المسلح علي الدولة السودانية، التي عانت من تجزئة الاحتلال الانجليزي وتحريضه لبعض الاثنيات والنخب الجديدة (الأفندية المؤدلجين) الذين (فرخهم الاحتلال) وهيأهم للدخول في حلبة الصراع السياسي في السودان ، لذلك شهدت البلاد تحولا في اتجاه الانقلاب العسكري في وقت مبكر من نيل الاستقلال ولم يؤسس أنموذجا ديمقراطيا فاعلا للتداول السلمي للسلطة وهذا الأمر علي غرار الحالة السياسية في قارة أفريقيا.
    وعلي الرغم من أن الأراضي السودانية تتمتع بقدر من الخصوبة والقدرة علي الإنتاج مع توفر الموارد المائية سواء من الأنهار أو الأمطار مع وجود خبرات تراكمية في المجال الزراعي ، إلا أن معاناة إنسان السودان وضعف الإنتاج تعود إلي أزمات إدارية في مجال الزراعة ، إذ ظلت المشاريع الزراعية الموروثة من الاحتلال الانجليزي تسير علي الأنماط الإدارية القديمة، وبنفس الدورات الزراعية مما حرم السودان من مزية التصدير بين الدول المنتجة للغذاء، بل أصبح من الدول المتلقية للمعونات والتي تعاني من نقص مريع في الغذاء.
     أسهم عامل آخر وهو تحول في الذائقة السودانية (بقصد) وبدعوى إعادة التنميط للمجتمعات المحلية وإدخالها في دوامة استهلاك (القمح) بدلا عن (الذرة) ، التي يبلغ الإنتاج المحلي ما يكفي الاستهلاك المحلي، ويمكن أن يصدر منه إلا إن موجة التحول السريع في الذائقة الوطنية، وفي أقل من عشر سنوات أصبح القمح السلعة الإستراتيجية الأولي في البلاد وأضحى (القمح) واحدة من أدوات الضغط علي الخزينة إذ تتحكم فيه دول كبرى وتستخدم القمح كسلاح استراتيجي وهذا مثال واحد من عشرات الأمثلة.
     السودان الذي يذخر بموارد معدنية متنوعة وباحتياطات كبيرة إلا أنها ظلت حبيسة ولم يتم التوافق في استغلالها، نتيجة لسياسات الدول العظمى التي ترمي إلى حبس الموارد بمختلف أشكالها في مخازنها وحواضنها الطبيعية وتفرض عليها طوقا منيعا، ومرد ذلك عدم دخول السودان في أي من الأحلاف الدولية التي تمكنه من استغلال الموارد وتقديم الدعم الفني والتمويل اللازم في بدء استغلال الموارد، بل كانت سياساته تميل إلي معاداة القوى الكبرى دون أن تختار قوى تتوافق مع مشروعه الفكري والسياسي بل اتجه إلى أكثر من ذلك تبني تصدير الأنموذج الجديد إلى المحيط الحيوي السوداني.
    و كقطر يملك فائضا قوميا من الثروة الحيوانية المتنوعة إلا أن الثقافة الغالبة أن القطيع القومي أغلبه يستخدم كشكل من أشكال التباهي الاجتماعي ولا تزال إمكانية تحوله إلى قوة اقتصادية أمرا بعيدا يتطلب الاستثمار فيه والانتقال من أشكال التباهي الاجتماعي إلى اقتصادات السوق، لذلك تطلب وضع استراتيجيات جدية لتحقيق القوة من خلال القدرة علي توظيف الموارد.
البعد الخارجي
     السودان بموقعة الجيوبولتيكي ظل حلقة الوصل  بين حضارات موغلة في الأفريقية وبين العالم العربي ومنفذ أفريقيا الحبيسة (الغابة) إلى العالم فامتلاكه للشواطئ الطويلة علي البحر الأحمر واتصاله بالصحراء مهد له الإطلال على طريق القارة ومدخلها إلى غابات الاستواء، وبذلك شهد تاريخه هجرات من وإلى الداخل الأفريقي وظل حلقة الوصل المنيعة لهذه الحضارات القديمة، وكان النيل هو نقطة استجمام الرحالة والغزاة والمغامرين والحجاج من كل حدب وصوب، بل أن بعد السودان الخارجي يكتسبه من تفاعله مع قضايا التحرر من الاستعمار ومن إيمان في العمق الأفريقي، وإن السودان يمثل رأس الرمح للهوية والوجدان الأفريقي ومن تفاعله مع محيطه العربي والإسلامي أيضا.
     فالأراضي التي تحدها الصحراء شمالا وغابات الاستواء جنوبا وسهول وسط وغرب أفريقيا ظلت علي امتداد تاريخها مركزا حضريا تنطلق منه روح المقاومة الأفريقية للمشروع التوسعي الغربي الذي يدرك أهمية هذي الرقعة في كونها المدخل الذي تتسابق عليه تاريخيا وفي وقتنا الحاضر لما له من تأثير كبير علي أوضاع القارة الأم، كما أن وجود الموارد الضخمة التي يحويها السودان في أراضيه، وهي محرك لهذا التسابق الدولي لذلك عمدت القوى العظمى على إبقاء السودان في حالة التخلف السياسي والاقتصادي عن عمد، وأسهمت النخب السودانية أيضا بتخلفها والتفاتها للحرب كمدخل لتسوية النزاعات بدلا من الاعتماد على التراضي والتوافق السياسي لتوطين السلام.
    صراع القوى العظمى في احتواء الدول أو عزلها وممارسة الإرهاب المنظم باسم القانون الدولي أو تطبيق قواعد القوة في إدارة الشأن الدولي لم يكن السودان بعيدا منه، إذ ظلت البلاد زمن نيل استقلالها من الاحتلال البغيض هدفا لمنعها من استثمار مواردها بشتى الطرق وجعل البلاد مخزنا لهذي الموارد، وإن تنوعت التوجهات الايدولوجية للنظم السودانية بين موالي أو معادي لتوجهات الدول العظمى الفاعلة في النظام الدولي، فخلال أقل من سبعون عاما وهي عمر الدولة السودانية الحديثة تراوحت الخرطوم بين الولاء لأقطاب النظام الدولي إبان حقبة الحرب الباردة وخلال فترة الأحادية القطبية واتجهت شرقا نحو الصين ونمور جنوب شرق أسيا .
  التحولات في النظام الدولي
    كغيره من الدول في العالم الثالث ظل السودان يعاني من التحولات الدراماتيكية في النظام الدولي التي أضرت بحالة التوازن وفقد النظام الدولي أبسط معايير العدالة في حراكه، وأضحى التشكل من ثنائية قطبية إلى أحادية أمريكية إلى مرحلة لم تكتمل مشاهدها الدولية فأضحت حالة التحولات وانتهاك قواعد النظام الدولي تنتهك باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرب على الإرهاب ، دونما أن تكون هناك تعريفات لهذه المفاهيم، وتم استخدام هذه الشعارات كأدوات لضرب الشعوب وتصنيف الدول وتمكين الظلم تحت مفهوم القوة وليس تحت راية المنظمة الدولية (الأمم المتحدة) .
العالم في مرحلة القطبية الأحادية (الإمبراطورية الأمريكية) انقسم إلى معسكرين لا ثالث لهم تحت شعار الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن (من ليس معنا فهو ضدنا) ، مما أفرز أوضاعا معقدة على مستوي التفاعل وأصبحت شعارات الولايات المتحدة وقيمها قوانين تفرض علي الشعوب، وباسم القيم الأمريكية تفرض العقوبات فإما الولاء الكامل أو السحق والحصار، صحيح أن حلفاء الولايات المتحدة طالتهم هذه السياسات الشوهاء وبنت أمريكا إمبراطورية الشر على غرار الإمبراطورية الرومانية القديمة، وأوجدت نوعا من العولمة والمفاهيم تحاكم بها من يخرج عن طوعها ، مما جعل الكثيرون حانقون على سياستها العدائية التي لا تخدم السلام والأمن العالميين بل تكرس لحالة الحنق والتفكير في عالم تسود فيه أقطاب تنافس الهيمنة الأمريكية وتحقق قدرا معقولا من التوازن الدولي .
     حاجة النظام الدولي إلي العودة لمرحلة التوازن بين القوى اليوم أكثر إلحاحا من قبل ، فأصبحنا على شفير (الحرب الكونية الثالثة) والتي ستكون أثارها مدمرة أكثر من ذي قبل ، وإن حركة الاقتصاد يجب أن تتعافي من هيمنة الدولار وعلى المنظمة الدولية أن تسترد مكانتها وتفصل في القضايا بعدل وإلا فإن البشرية موعودة بحرب نووية تقضي على الأخضر واليابس بما فيه الحضارة الغربية والتي ستكون المسرح لهذه الحرب على اعتبار أن سياستها وتوجهاتها هي من أزكت وأسست لهذه الأوضاع المخلة لتوازن النظام الدولي.
الحراك الجيوبولتيكي السوداني
     اليوم تشهد قارة أفريقيا وعالمنا العربي والإسلامي صراعات تحت رايات ترفعها قوى رأسمالية بأهداف غربية تتاجر بالسلاح وتأخذ مواردنا وتعمل على إعاقة نهوض عربي وإسلامي ، وكذلك الحالة السودانية لا يقل مسرحها من عبث الصراعات المسلحة، إلا أن خيار الجلوس إلى موائد التفاوض الداخلي ومن ثم الحل للأزمات في المحيط الحيوي السوداني والعودة إلى خيارات السلام أمرا نحتاجه الآن قبل الغد، فالصراعات التي أزكيت لتنال من كرامة الإنسان وقودها نفس أبناء هذه الشعوب وشرد أبناء هذه الشعوب في جريمة لن تغتفر في حق الساسة أو من يدعم بالسلاح والمواقف لإطالة أمد الصراعات.
الوعي بمكونات اللعبة السياسية في محيطنا اليوم أمر لا يحتاج إلى (قمم) ولا (تصريحات سياسية) فما يجمعنا أكثر مما يفرقنا وهو المصير الواحد، وإذا قدر أن نوجد الحل السياسي لهذه الأزمات لأصبحنا مؤثرين بمواردنا وموقعنا في (قلب العالم الجيوبولتيكي) .
    الحراك السوداني في فضائه الجيوبولتيكي يستلزم مراجعات جذرية في الداخل الوطني ويؤسس لأوضاع تسمح له أن يلعب دورة الغائب من حقبة الاحتلال البغيض، ومن بعد إصلاح شؤون البيت الداخلي، يمكن أن ينطلق ليؤثر علي محيطة الإقليمي المليء بالصراعات والنزاعات ومن ثم تحقيق حالة من الريادة ، وإن ستقابل مثل هذه الإصلاحات بمتاريس الخارج إلا أن وجود إرادة يمكن أن تحقق المستحيل ، فيجب علينا استغلال الارتداد الأمريكي والدخول في علاقات جيدة مع الأقطاب الصاعدة دوليا ومن ثم مع دول الإقليم العربي والأفريقي.
   وهذا الحراك يجب أن يكون من كل الأطراف الفاعلة في النظام العربي وفي البعد الجغرافي الأفريقي ، لا يمكن أن يشكل حراك دولة واحدة نتائج ذات أهمية ما لم يتم التعاضد والتكاتف (لأن المصائب تجمع مصابي المنطقة ) وأبرز عنوان لها التقسيم والتشرذم بفعل الخارج والاقتتال على أسس مذهبية أو الخلافات الحدودية أو بين الزعماء العرب والأفارقة وهي قضايا يجب أن ينظر لها لأن القضية قضية وجود وليست نفوذ أو حدود.. هذا وإلا الطوفان المدمر .