فيدرالية الهويات الفئوية : من "وحدة المتعدد" إلى "تعدد الأحاديات" (2/2)

17.04.2016

يركز الجزء  الثاني من البحث على بعض النماذج ويدرس حالة عن عدد من البلدان  التي تم فيها استخدام "فيدرالية الهوية"  كسلاح جيواستراتيجي لخدمة السياسة الخارجية الأمريكية.. كما يذكر عددا من الدول التي ما تزال الآن "تحت المجهر" ويتم العمل حاليا على استخدام هذا "السلاح" فيها  لتقويض وحدتها.. ويتفحص الباحث بالتحديد نموذجين واضحين وهما جنوب السودان ونيبال. بينما يتم العمل حاليا على كل من  ميانمار وجمهورية مقدونيا في البلقان وصولا إلى ما يتم التخطيط له  لكل من سورية والعراق ...
سورية والعراق:
من بين مشاريع الفدرلة الأخرى التي تعمل الولايات المتحدة على إقامتها ينصب الاهتمام حاليا على المنطقة الحدودية بين سورية والعراق.. تقع هذه المنطقة حاليا تحت سيطرة  "داعش". وقد سبق للكاتب وزملائه في  مركز الأبحاث التحدث باسهاب وبالتفصيل عن المصالح الجيواستراتيجية التي ستجنيها الولايات المتحدة  من خلال  إنشاء  كيان  أو "دويلة"  عابرة للحدود كهذه. وقد تم أصدار تقرير مفصل حول هذا الموضوع في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي عام 2015.  فظهور دويلة شبه مستقلة باسم  "سنيستان"  تقوم اسميا على هوية "مشتركة" في المنطقة الواقعة شرق سورية وغرب العراق سيسهل أو يسمح بمرور خط أنابيب  الغاز القطري  الذي طالما حلمت به  قوى الأحادية القطبية. ولو تم لهم ذلك سيمر خط الأنابيب هذا  إلى تركيا وصولا إلى أوروبا. لكن المسألة لا تتوقف على هذا وحسب, بل هناك ما هو أخطر.. فان حصل وتم قيام  مثل هذه الكيان الفدرالي سوف  يمتد الأثر  إلى باقي  المكونات الإثنية والعرقية والدينية الأخرى في المنطقة وسنشهد ظهور او بروز مكالبات بكيانات فيدرالية  أو حتى شبه مستقلة  كردية وغير كردية عابرة للحدود.. وسيقوم كل مكون بالمطالبة بكيان خاص به قائم على الهوية الفردية المباينة لهوية الدولة ما يهدد وحدة كل من سورية  والعراق.
الغريب في الأمر ان مثل هذا السيناريو لا يهدد وحدة سورية والعراق فحسب بل قد يمتد أثره إلى كل من حليفتي الولايات المتحدة  تركيا والسعودية..  و رغم  أنه من المستبعد أن تقوم الولايات المتحدة حاليا بالإضرار بحليفتيها, لكن ديناميات الحراك السياسي  في الشرق الأوسط وتشابك الصراعات قد يحقق نبوءة  رالف بيترز التي تحدث عنها في كتابه الصادر منذ  عقد من الزمان تحت عنوان "حدود الدم". وليس مستبعدا أن يجد مثل هذا السيناريو قبولا لدى  بعض المخططين الاستراتيجيين في الولايات المتحدة مما قد يدفعهم فعلا  لتنفيذ سياسة الأرض المحروقة في الشرق الأوسط من خلال العمل على إنشاء كيانات ودويلات متصارعة فيما بينها وتكون في الوقت نفسه محط تنافس  وتنازع القوى الكبرى التي تسعى كل منها للحصول عليه او ضمه إلى دائرة نفوذها..  ومن المهم الأخذ بعين الاعتبار أن الولايات المتحدة قد فقدت الكثير من مناطق نفوذها في المنطقة ومن الصعب، ان لم يكن من المستحيل، استعادة ما فقدته... واشنطن تدرك ذلك, لكنها تعمل كل ما في وسعها لمنع  منافسيها (روسيا والصين وايران)  من ملء هذا الفراغ.
الجزء  الثالث:
لكن الحال ليس متماثلا في جميع الدول.  فعلى عكس الفوائد الجيواستراتيجية التي تأمل الولايات المتحدة ان تجنيها من خلال الدفع بمشاريع فدرالية الهوية في دول معينة, هناك  مناطق وبقاع أخرى في العالم قد يكون لهذا المشروع أثر عكسي بل مدمر لمصالح الولايات المتحدة كما هو الحال في  كل من اسبانيا واوكرانيا (في اوروبا) وحصن الأحادية القطبية الحصين في شمال امريكا.   فحصول  مثل هذا السيناريو في هذه  البلدان سواء كان متعمدا أم  عرضيا سيرتب آثارا كارثية تضر بمصالح الولايات المتحدة.
من الأركان الأسياسية التي  ترتكز إليها سياسة الولايات المتحدة  تجاه اوراسيا هي ممارسة  الهيمنة والسيطرة على اوروبا الواقعة عمليا تحت الاحتلال من قبل  الناتو الذي يصادر قرارها كليا تقريبا. وتقوم هذه السياسة بتشجيع وترويج الاندماج المتنامي لمؤسسات  الاتحاد الأوروبي بينما تحاول في الوقت نفسه الابقاء على خيوط اللعبة بيدها لتتمكن من الاستمرار بالتحكم بقراراته والمحافظة على سيطرتها ووصايتها  الأطلسية عليه عبر ما يسمى بالتعاون بين ضفتي  الأطلسي . وتستخدم في ذلك كلا  جملة من الأدوات من بينها نفوذ حلف الناتو  وأخيرا توقيع اتفاقية الشراكة الأطلسية  المعروفة باسم (TTIP).  فواشنطن تريد ابقاء بروكسل في موقع ضعيف خانع بحيث لا تتمكن مطلقا من التعبير بشكل عملي عن تطلعاتها في تعزيز التعاون مع  الفضاء الأوراسي التواصلي وخاصة مع كتلته الجوهرية المتمثلة في كل من روسيا والصين. لذا فالولايات المتحدة لا تريد اضعاف  هيكلية الاتحاد الأوروبي ولا تريد لفيدرالية هشة ان تنشأ داخل الكيان كي تتمكن من استخدام هذا الاتحاد في منع قيام أي تعاون بناء ووثيق ما بين دول اوروبا الغربية وروسيا. وهي لهذا السبب تعارض فكرة الفيدرالية في كل من اسبانيا واوكرانيا. لكنها في الوقت نفسه  يمكن ان تعمل على تهيئة سابقة مؤسساتية من خلال  تأجيج  النزعات الانفصالية في  العديد من دول اوروبا الغربية كالاسكتلنديين في بريطانيا والكورسيكيين في فرنسا والشماليين في إيطاليا والبافاريين في ألمانيا والسيليزيين في بولونيا وما إلى ذلك..
المعايير المزدوجة
لكن المفارقة الكبرى هي أن الولايات المتحدة , ومع أنها تدرك جيدا خطورة  الفدرلة على أسس فئوية, تستمر في دعم هذا التوجه في بلدان معينة وترفضه في بلدان أخرى, مع أنها هي نفسها قد  تقع ضحية هذه المشاريع ويمكن لكيانها ذاته ان يتحلل إلى كيانات فئوية صغيرة لا تربطها ببعض البعض سوى روابط هشة لغاية.  تدل هذه الحسابات الاستراتيجية على ادراك واشنطن لتبعات الفدرلة ومعرفتها المسبقة بما يمكن ان يحدثه هذا التوجه من عواقب وخيمة تزعزع استقرار الدول.. لكنها تستمر في  التصرف بازدواجية واضحة للمعايير وتطبق على الآخرين ما لا تقبل تطبيقه  عليها. وربما لهذا السبب تحديدا.. أي  بسبب معرفتها بخطورة هذا التوجه  الذي يمكن ان يدمر النسيج المجتمعي المتجانس, تقوم الولايات المتحدة بنشر قوات أمنها  الوطني لقمع اي تحرك شعبوي يسعى للحصول على الفدرلة او يطالب بصلاحات مبنية على أساس الهوية..
لكن ما تنساه الولايات المتحدة او تتجاهله هو الأثر المرتد لهذه السياسات جميعا  عليها وعلى سلامة وحدتها ووجودها. فكما قامت باستخدام الثورات الملونة والحروب غير التقليدية والحروب الهجينة وفدرالية الهوية ضد العديد من دول العالم,  يمكن لهذه الأسلحة ان ترتد عليها وتنقلب ضد  صانعها الأمريكي.
كعب أخيل الأحادية القطبية
قد تكون التحركات الشعبية المطالبة بفدرالية مؤسسة على الهوية هي "كعب أخيل" الذي قد يؤدي إلى تقويض الهيمنة الأمريكية على العالم.  فالحركات الشعبية الأمريكية التي باتت على اطلاع واسع على كل ادوات الحرب هذه من ثورات ملونة وحروب غير تقليدية وحروب هجينة  يمكن ان تقوم بتنسيق هذه الأدوات واستخدامها لتقويض الاستقرار الداخلي والوحدة  المجتمعية التي كانت الولايات المتحدة, حتى الآن, تعتبره أمرا مفروغا منه ولا يمكن ان يمس.
والتحركات الشعبية الاحتجاجية سواء كانت حركة "احتلوا وول ستريت"  أو "حياة السود تعنينا" أو حتى الميليشيات" يمكن ان تنفلت من عقالها وتؤدي إلى مواجهات بين المحتجين ورجال  الأمن مما قد يتسبب في تدحرج الكرة بشكل غير متوقع وبما يؤدي إلى اتساع الدائرة  وتتسبب في حدوث اضطرابات أهلية قد تخرج من إطار السيطرة.. ويمكن لها اذا تمت مواجهتها بالعنف  أن تؤدي إلى نضوج حركات أكثر تنظيما تطالب بتغيير وإصلاح النظام الداخلي للفدرالية الأمريكية بالكامل.. ويمكن ان تصل إلى حد المطالبة بإحداث تغييرات ديموقراطية  كبرى وإدخال تعديلات جوهرية على آليات اتخاذ القرار. فخروج الناس في مسيرات شعبية احتجاجية واسعة  قد  تفرض اجراء استفتاءات شعبية على جملة من التشريعات يتم من خلالها  تجاوز  الكونغرس والرجوع عوضا عنه إلى الشعب مباشرة. أمر كهذا سيغير الطريقة التي  تدار بها الولايات المتحدة كليا.. ومثل هذا السيناريو بقض مضجع النخبة الأمريكية ويثير الهلع في نفوسها.
في الختام, يمكن القول إن  مفهوم  فدرالية الهوية الذي روجته الولايات المتحدة ودفعت به عبر جملة من الوسائل التكتكتية الأخرى التي تندرج تحت مسمى الجيل الخامس من الحروب, يمكن أن يرتد عليها أيضا ويقوض كل المكاسب التي حققتها على حساب شعوب ودول العالم الأخرى بل يمكن ان يؤشر لنهاية سيطرتها ويكتب خاتمة أخيرة لهيمنة الأحادية القطبية التي سيطرت على العالم منذ نهاية الحرب الباردة حتى الآن.

المادة هي الجزء الثاني من عرض لدراسة  طويلة عن الهوية الجامعة  وتعدد الهويات بقلم أندرية كوريبكو.

ترجمة وإعداد الزميلة زينب صالح