في ذكرى حرب «الأيام الخمسة» في القوقاز

26.08.2016

في مطلع آب الحالي٬ حلّت الذكرى الثامنة للحرب الروسية الجورجية، التي تُطلق عليها وسائل الإعلام الروسية «حرب الأيام الخمسة» أو «حرب القوقاز الجديدة». وقد ترتّبت على هذه الحرب تغُيرات داخل جورجيا نفسها٬ حيث اختفى الرئيس السابق ميخائيل شآكاشفيلي من المشهد السياسي، وترسخ انفصال إقليمَي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عن الأراضي الجورجية باعتراف روسيا بهما كدولتين مستقلتين. ويُهمّنا، هنا، الأثر الإسرائيلي في تلك الحرب، الذي طوت موسكو وتل أبيب صفحته، ولم تعد تتذكّره روسيا سواء على المستوى الرسمي أو الإعلامي.

ففي هذه الحرب، كُشِف النقاب عن دور إسرائيلي يدعم تبليسي بالسلاح والخبراء العسكريين في مواجهة روسيا. فقد اتهمت وزارة الدفاع الروسية إسرائيل، ضمن دول أخرى، بدعم جورجيا وتدريب جيشها للقيام بالهجوم على أوسيتيا الجنوبية. وتحدّثت وسائل إعلام روسية عن حصول جورجيا على شحنات كبيرة من الأسلحة من إسرائيل، وأن جنرالين إسرائيليين كبيرين أشرفا على تدريب الجيش الجورجي. وألمحت موسكو إلى أن الذين قادوا هجوم الجيش الجورجي على أوسيتيا الجنوبية، هم مواطنون إسرائيليون. ومن المعروف أن أكثر من 50 ألف يهودي جورجي يعيشون في إسرائيل. وقد عاد بعضهم إلى جورجيا في الأعوام القليلة التي سبقت اندلاع الحرب، من بينهم دافيد كيزيراشفيلي الذي تولّى المسؤولية في وزارة الدفاع الجورجية في 2006. كما أصبح مواطن إسرائيلي آخر من أصول جورجية، هو تيمور ياكوباشفيلي، وزيراً في الحكومة الجورجية، ومسؤولاً عن إعادة إقليمَي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية الانفصاليين إلى جورجيا في 2008.

لقد تبين، آنذاك، أن نحو ألف خبير عسكري إسرائيلي قاموا بتدريب القوات الجورجية، شارك بعضهم في القتال بشكل مباشر. وأكد «معهد الأبحاث الدفاعية» في السويد في تقرير صدر في العام 2009 أن تبليسي وتل أبيب كانتا قد أبرمتا اتفاقية سرية، وضعت السلطات الجورجية بمقتضاها مطارَين تحت تصرف العسكريين الإسرائيليين، حيث كان من المفترض أن تجثم فيهما طائرات إسرائيلية لتوجيه ضربات إلى إيران في الوقت المناسب. فكانت إسرائيل، في تلك الفترة، تُفكر بجدية بمهاجمة طهران بسبب ملفها النووي، واختارت جورجيا لتكون نقطة انطلاق نحو إيران. كما كانت تل أبيب تحاول استخدام ورقة جورجيا للمساومة مع موسكو على طهران، إذ كانت الحكومة الإسرائيلية تُطالب موسكو على الدوام بضرورة تأييد فرض المزيد من العقوبات على الجانب الإيراني، وهذا ما حدث في ما بعد في العام 2010.

ومن بين الأسباب الأخرى المهمة لاهتمام تل أبيب بجورجيا، حصول إسرائيل على ما يُغطي 20 في المئة من احتياجاتها النفطية من حقول النفط الأذربيجانية في بحر قزوين، حيث كان يُنقل هذا النفط من باكو إلى ميناء جيهان التركي عبر تبليسي.

حاولت تل أبيب التعتيم على دعمها جورجيا من خلال استخدام مستشارين عسكريين إسرائيليين يعملون في شركاتها الأمنية الخاصة كغطاء لأعمالهم في الأراضي الجورجية. وكانت الولايات المتحدة الأميركية ضالعة أيضاً في إعداد الجيش الجورجي، إذ شارك نحو 130 مستشاراً عسكرياً أميركياً في تدريب هذا الجيش. ناهيك عن اشتراك نحو ألف عسكري أميركي في مناورات عسكرية جرت في جورجيا قبل أن تبدأ الحرب في السابع من آب 2008.

إن الأثر الإسرائيلي في «حرب الأيام الخمسة»، اعترفت به أيضاً السفيرة الإسرائيلية السابقة في موسكو، آنا أزاري، وإن بشكل غير مباشر. ففي محاضرة ألقتها في جامعة موسكو للعلاقات الدولية في الرابع من أيلول 2008، أكدت أن بلادها أوقفت توريد أي نوع من الأسلحة إلى جورجيا قبل أسبوع واحد من اندلاع النزاع في أوسيتيا الجنوبية بناء على طلب من روسيا. وذكرت أن «إسرائيل رفضت تلبية رغبة جورجيا بشراء 300 دبابة من طراز «ميركافا» قبل شهور عدة من الحرب في القوقاز». بيد أن حقيقة تصدير الأسلحة الإسرائيلية إلى جورجيا كانت قد انكشفت في شهر أذار من العام 2008، عندما أُسقطت طائرة تجسس إسرائيلية من دون طيار فوق الأراضي الأبخازية.

يقول الروس، على خجل، إن إسرائيل، وفي محاولة منها لمنع تدهور العلاقات مع روسيا، فرضت حظراً على سفر ممثلي شركات التصنيع العسكري الإسرائيلية إلى جورجيا. فالحكومة الإسرائيلية التي ساعدت جورجيا بالتدريب والسلاح في الحرب، كانت قد وعدت موسكو بوقف تعاونها العسكري مع تبليسي. غير أن مصادر روسية، وبعد انتهاء الحرب بشهور عدة، عادت لتؤكد من جديد أن جورجيا تُعيد بناء جيشها بالتسلّح من دول حلف «الناتو» وإسرائيل وأوكرانيا. وسارعت الولايات المتحدة بتدريب القوات المسلحة الجورجية مجدداً، بينما زوّدتها إسرائيل بطائرات من دون طيار وأوكرانيا بدبابات ووسائل الدفاع الجوي.

وبذلك نكثت إسرائيل بوعودها المتكررة لروسيا بعدم تزويد جورجيا بالسلاح والعتاد العسكري مقابل امتناع موسكو عن بيع صواريخ «إس-300» إلى إيران. لكن موسكو تمسّكت آنذاك «بوعودها» في ما يتعلق بتلك الصواريخ، حيث أوقفت الصفقة مع طهران، ووافقت بعد ذلك على قرار أممي بتشديد العقوبات على إيران وحظر بيع بعض العتاد العسكري لها في العام 2010.

برغم تورط إسرائيل في تجهيز الجيش الجورجي بالسلاح والمدربين العسكريين٬ أثناء تلك الحرب وبعدها، إلا أن ما يلفت النظر هو التعامل الروسي «المرن» مع هذه المسألة وتأكيد الروس دوماً على «الديناميكية الإيجابية» للعلاقات بين روسيا وإسرائيل. وهذا التأكيد يعكس واقع الحال ومدى تطور العلاقات بين الجانبين في مجالات شتى، بما فيها التعاون العسكري. وتتجلّى هذه الديناميكية الإيجابية كذلك في طي صفحة التورط الإسرائيلي في الحرب الروسية الجورجية بسرعة فائقة، وفي التنسيق اليوم في الأزمة السورية ومكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط. وإن دلّ هذا على شيء، فعلى مدى براغماتية السياسة الخارجية الروسية والتأثير الإسرائيلي داخل روسيا نفسها.

نشرت للمرة الأول في "السفير"