إدلب ومعادلة القرارات الصعبة.. انتفاضة دمشق القادمة

23.04.2020

ضمن إطار التفاهمات الهشة التي عنونت ملف إدلب خلال الأشهر المنصرمة، والتي نقلت مدينة إدلب إلى ضفة الهدوء والاستقرار النسبي، وعلى الرغم من الواقع الحذر الذي فرضه تفشي فايروس كورونا، وانعكاساته الواضحة على جبهات الصراع السياسي والعسكري، إلا أن هناك معطيات تشي صراحة بأن الخلافات الروسية التركية لم تُحل جذرياً. هي معطيات ترجمتها التعزيزات التركية التي انتشرت في إدلب ومحيطها، تحت ذرائع متعددة عنوانها الرئيس تفاهمات روسية تركية، فضلا عن الاخفاقات المتكررة والمتعمدة في جانب منها، لجهة استمرار اغلاق الطريق الدولي الذي يربط حلب باللاذقية M4؛ فالتحشيد التركي يحمل في ماهيته تصعيداً بارداً، وفي جانب أخر هو يحمل رسائل لها ما لها من تهديدات تطال دمشق وموسكو على السواء، من هنا يبدو أن الشمال السوري على موعد مع مفاجآت سياسية وعسكرية في الأسابيع المقبلة، وقبيل طي أزمة فايروس كورونا، فالأحداث والتطورات التي شهدتها إدلب، رُسمت بمشهد تركي صِرف، حيث أن التعزيزات التركية توحي بتهيئة مسرح حرب بالمقاييس كافة، فما بين الجنود الأتراك والمنظومات الصاروخية المتطورة، وناقلات الجند والدبابات التركية، من المؤكد أن شمال سوريا لم يعد مشهداً لحروب الوكالة، بل أن عمق هذا المشهد يؤسس لـ مواجهة مباشرة بين الدولة السورية وتركيا، وهي مواجهة تُهدد أيضاً بجذب تركيا إلى عمق الصراع العسكري مع روسيا.

رجب طيب أردوغان يُهيئ له بأن الزعيم الأوحد صاحب القرارات والاستراتيجيات الصائبة، مدفوعاً بذلك بأوهام حلمه العثماني، والذي حمله إلى موسكو للقاء بوتين، فـ عندما توجه أردوغان الى موسكو في 5 اذار/مارس المنصرم، كان يردد ان المواجهة مستمرة في شمال سوريا حتى انسحاب الجيش السوري من المناطق التي دخلها بعد اتفاقية سوتشي، لكن أرادت موسكو في هذا الإطار اللعب على نقاط الضعف التركية، مثل ملفي النزوح وجبهة النصرة بمختلف فصائلها المدعومة تركياً، وذلك بُغية الحصول على ما تريده دمشق في إدلب. في المقابل حاولت أنقرة إضعاف الملفات الروسية، واللعب على المتناقضات عبر استجداء أو محاولة الاستقواء بكل من الأميركيين والأوروبيين في ادلب، وكذلك عبر الدخول العسكري المباشر على خط المعارك الميدانية آنذاك. هنا تحضر بقوة تصريحات ديفيد ساترفيلد السفير الأميركي بأنقرة، في 10 آذار \مارس المنصرم، حيث قال في خضم العمليات العسكرية السورية شمال شرق سوريا، أن واشنطن والناتو يعملان على إيجاد طريقة لدعم تركيا في إدلب.

بصرف النظر عن العناوين الكبرى التي أسّست لمشاهد الحرب على سورية، يبدو أنّ دمشق وموسكو وطهران وعبر هدوء استراتيجي محكَم، قد أسّسوا لمعادلات سياسية ومثلها عسكرية، ناهيك عن القدرة على احتواء حالات التسويف الأميركي، والمماطلات التركية لجهة تنفيذ تعهّداتها. هذه المعطيات أوصلت دمشق إلى مرحلة طيّ التفاهمات، والبدء بمشهد عسكري تحكمه الوقائع والمعطيات. وبناء على ذلك، فإنه لا يمكن فصل التحركات السورية في شرق الفرات وغربه، عن التأسيس لرافعة يتمّ من خلالها الخوض في غمار ملف إدلب، وتفكيك كلّ التفاهمات التي باتت مؤطرة ضمن معادلات تقسيم سورية وإطالة أمد الحرب عليها، وبالتالي فإنّ بلورة الحلول السياسية، تحتاج حكماً إلى قدرة عسكرية تقلب الطاولة على محور أعداء سورية، وهذا ما أكده الرئيس الأسد حين قال "إنّ التحرير التدريجي الذي يحصل في إدلب سيحصل في الشمال السوري بعد استنفاذ كلّ الفرص السياسية"، مشيراً إلى أنه "في حال لم تعطِ العملية السياسية بأشكالها المختلفة نتائج، فإنّ سورية ستذهب إلى خيار الحرب ولا يوجد خيار آخر". الأمر الذي يؤكد أن الاستراتيجية السورية تعتمد في مضامينها على إقصاء ملف إدلب من أيّ تجاذبات سياسية، أو تفاهمات دولية. هذا الأمر يؤسّس لما هو أبعد من مخرجات أستانا وتفاهمات سوتشي.

في ذات الاطار، من الواضح أن القادة الروس غاضبين جراء المناورات التركية المستمرة. وعليه، فإنه من المؤكد أن فلاديمير بوتين ليس في مزاج للتراجع أو تقديم تنازلات "لشريكه" رجب طيب أردوغان، فمن جهة يرغب بوتين بتلقين أردوغان درساً قاسياً، ومن جهة أخرى فإن بوتين يرغب وبشدة بإنهاء ملف إدلب، ومن ثم التوجه مباشرة إلى شرق الفرات لتسوية الأوضاع سياسياً هناك، لذلك قد يكون الثمن الذي سيطلبه بوتين في المراحل المقبلة من أجل إنقاذ أردوغان، هو الانسحاب الكلي من إدلب، وليس إدلب فقط، بل أيضا من الأراضي السورية الأخرى التي تحتلها تركيا إلى الغرب من نهر الفرات ومن المنطقة الشمالية الشرقية التي يسيطر عليها الكرد، والتي غزاها بشكل مثير للجدل في الخريف الماضي، ما يعني إن فكرة "أردوغان" غير القابلة للتطبيق دائمًا المتمثلة في الحفاظ على "مناطق آمنة" شبه دائمة داخل سوريا، والتي يمكن للاجئين في تركيا العودة إليها، من الناحية النظرية، قد ماتت أو تموت بالفعل.

القرارات الصعبة التي سيتخذها بوتين في المرحلة المقبلة، ستكون ضمن إطار التحالفات الاستراتيجية بين موسكو ودمشق؛ خاصة أن التغير الواضح في الديناميكيات السياسة والعسكرية للأطراف الفاعِلة والمؤثّرة في المشهد السوري، تُنبئ بأن الخلاف الروسي التركي قد وصل لمرحلة لا يُمكن طيها بعد اليوم؛ صحيح أن العلاقة الروسية التركية تبتعد في مضامينها عن الملف السوري، لكن الصحيح أيضاً أن التصادم السياسي لجهة إدارة الصراع في سوريا، وتجلّيات البُعد العسكري في أيّ تفاهم روسي تركي، يشي بالدخول مباشرة في معادلات جديدة تتجاوز في أبعادها مُخرجات أستانا وسوتشي، بَيْدَ أن التعقيدات التي حاولت تركيا هندَسة أبجدياتها، قد أدخلتها في مأزقٍ جيوستراتيجي مع روسيا، وفي المقابل، والأهم من هذا وذاك أن هناك رغبة سورية بإخراج ملف الشمال السوري كاملاً من عُهدة المُراهنات الإقليمية والدولية، فضلاً عن منع ظهور حالات الاختناق السياسي والعسكري التي تلوّح بها تركيا والولايات المتحدة لجهة الكرد وورقتهم الضاغِطة على دمشق.

وعليه، فإن ملف إدلب لن يبقى في إطار الشد والجذب، كما أن إدلب لن تكون خارج السرب السوري، وسيكسر جمود ملفها التحركات السورية شمال شرق سورية، وطبيعة المناخ العسكري الذي وصلت إليه التطورات في إدلب وريفها. كل هذا سيفرض نمطاً من التعاطي الجديد حيال ملف إدلب، ولن تبقى الدولة السورية تنتظر حتى تصل الأطراف الدولية والإقليمية إلى تفاهمات يمكنها تجاوز جمود الحالة الراهنة وتقاطع المصالح والأهداف على الأرض السورية. في هذا المعنى فإن إدلب لن تبقى خارج السرب السوري، ودمشق تخطّ طريقها إلى إدلب وفق مسار استراتيجي محكم.