جذور العلاقات التاريخية بين أوكرانيا وإسرائيل

26.08.2019

تعد إسرائيل المستفيد الأكبر من فوز الرئيس الأوكراني الحالي، فلاديمير زيلينسكي، بالانتخابات الأوكرانية الأخيرة.

لقد اتشح تاريخ اليهود في أوكرانيا بالسواد عبر تاريخ طويل من المعاناة والمآسي، حيث تضرب معاداة السامية في أوكرانيا بجذورها إلى زمن الاجتياح البولندي، حينما اشترى التجار اليهود من الإقطاعيين البولنديين حق جباية الضرائب، ما تسبب في تعظيم ضغط الضرائب، واندلاع عدد من الانتفاضات ضدهم من الشعب الأوكراني. وانتهى الأمر بالثورة ضد السلطات البولندية، ومناشدة القيصر الروسي بضم أوكرانيا إلى الأراضي الروسية. وبعد الانضمام للإمبراطورية الروسية جرت هناك أيضا مذابح أكثر دموية معادية لليهود بخاصة في الأراضي التي أصبحت اليوم ضمن أوكرانيا الحالية. وإجمالا فإن التوجه القومي الأوكراني كان تاريخيا وضمنيا يعني كذلك معاداة السامية، وفي ظروف أي صراعات أو حروب كان القوميون الأوكرانيون عادة ما يسعون إلى إبادة اليهود المحليين.

اليوم، تحمل الأيام الغريبة التي نمر بها، تحالفات مدهشة، لعل أبرزها التحالف بين الأوليغارشيين اليهود في أوكرانيا والقوى التي تجاهر بنازيتها، والتي كانت القوى الأساسية المحركة للانقلاب الحكومي عام 2014. بل إن الرئيس الأوكراني الحالي زيلينسكي هو نفسه يهودي، وهو ما يوضح التغير الجذري الذي طرأ على السياسة الأوكرانية، وعلى وعي الأمة الأوكرانية.

وعقب انهيار الاتحاد السوفيتي، وانتقال أوكرانيا إلى الرأسمالية، بدأت السلطة في التحول تدريجيا إلى رأس المال. وفي الأوقات الشرسة، إبان تسعينيات القرن الماضي، أصبحت أوكرانيا، شأنها في ذلك شأن روسيا، مرتعا خصبا للسرقة، بحيث تمكّن كل من كان بحوزته المال من شراء الممتلكات، وأيضا السلطة.

وكان من بين كبار المنتفعين من خصخصة الميراث السوفيتي آنذاك، المواطن الأوكراني الإسرائيلي، إيغور كولومويسكي، والذي يشغل في نفس الوقت مناصب: رئيس اتحاد الجاليات اليهودية في أوكرانيا، عضو مجلس أمناء الجالية اليهودية في مدينة دنيبروبيتروفسك، الرئيس السابق والعضو حتى 2011 للمجلس الأوروبي للجاليات اليهودية، رئيس الاتحاد اليهودي الأوروبي.

تؤكد مصادر متعددة أن كولومويسكي كان على اتصال وثيق برئيس الوزراء الأوكراني الأسبق، بافل لازارينكو، واستطاع أثناء موجة الخصخصة من السيطرة على جزء كبير من الصناعات الأوكرانية، ليصبح بنك "بريفات" الأوكراني، المملوك لكولومويسكي، أكبر مصرف في البلاد.

وكانت نتيجة الخصخصة الأوكرانية أن تصبح الدولة كلها في يد حفنة من الأوليغارشيين، بينما ضعفت السلطة الحكومية، وانتقلت السلطة الحقيقية إلى مجموعة من هؤلاء يخوضون حربا مستعرة ومستمرة فيما بينهم على الممتلكات.

وكان أحد هؤلاء الرئيس الأوكراني السابق، فيكتور يانوكوفيتش، والذي وقف ضده في الانقلاب الحكومي عام 2014، إلى جانب الغرب، مجموعة من أعدائه الأوليغارشيين، ومن بينهم كان بيوتر بوروشينكو، الذي أصبح بعد الانقلاب رئيسا لأوكرانيا، ومعه كولومويسكي، الذي أصبح وقتها حاكما لمقاطعة دنيبروبيتروفسك. لكن التناقض الأكثر إثارة للدهشة، كان في تمويل اليهودي كولومويسكي لمجموعات وكتائب نازية صريحة (وهو ما يعني بطبيعة الحال أنها معادية للسامية!)، استخدمت وتستخدم في مواجهة المواطنين الروس، والناطقين بالروسية في شرق أوكرانيا.

إلا أن كولومويسكي اختلف مع الرئيس بوروشينكو عام 2015، حول السيطرة على بعض الممتلكات، وتفاقم الخلاف بينهما، حتى كاد أن يصل إلى استخدام السلاح. حينها أعفى بوروشينكو كولومويسكي من منصبه في مقاطعة دنيبروبيتروفسك، وفرّ الأخير بدوره إلى إسرائيل، بينما أمّمت الحكومة الأوكرانية بنك "بريفات" الذي يملكه، وانتقلت السيطرة على الكتائب النازية إلى أوليغارشي آخر، أصبح يشغل منصب وزير الداخلية الأوكراني هو أرسين أفاكوف.

من جانبه انتقم كولومويسكي من غريمه بوروشينكو بدعم الرئيس الحالي، فلاديمير زيلينسكي، في الانتخابات الرئاسية، وقامت القنوات التلفزيونية وسائر وسائل الإعلام التابعة لكولومويسكي بالدعاية الانتخابية للرئيس الشاب، زيلينسكي، الذي يدين لكولومويسكي بالكثير في صعوده إلى كرسي الرئاسة.

عقب ذلك عاد كولومويسكي من إسرائيل إلى أوكرانيا، بينما تنظر المحكمة الأوكرانية الآن بالتوازي قضية تأميم بنك "بريفات". وعلى الرغم من تأكيدات زيلينسكي على ابتعاده عن الأوليغارشي، إيغور كولومويسكي، إلا أن الرئيس الأوكراني، على أرض الواقع، ينفذ كل ما ينطق به كولومويسكي.

على سبيل المثال، صرح كولومويسكي، 6 أغسطس الجاري، أن أوكرانيا لن تنفذ اتفاقية مينسك مع جمهوريات الدونباس، لأن ذلك يتطلب تغيير الدستور الأوكراني. وفي 7 أغسطس، صرح الرئيس زيلينسكي، خلال مكالمة تليفونية مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بأنه يرفض تغيير الدستور من أجل الوفاء بشروط اتفاقية مينسك.

لذلك فإن تأثير كولومويسكي على السلطة الحالية هو أمر لا شك فيه، لكن الصراع السياسي بالنسبة للأوليغارشيين هو وسيلة لا غاية. حيث يتلخص الهدف الرئيسي لهم الآن في تقسيم أغنى الأراضي الأوكرانية، وأكثر الأراضي خصوبة على وجه الكرة الأرضية، والكنز الحقيقي الذي تمتلكه أوكرانيا. لكن القانون الأوكراني الحالي يمنع تملّك الأجانب لأراضي الدولة. بهذا الصدد وعد الرئيس زيلينسكي أنه سوف يلغي هذا القانون بنهاية العام الحالي، حيث أن ذلك أيضا من بين مطالب البنك الدولي. يهدّد ذلك أوكرانيا بكارثة مجتمعية، وتحول نهائي لهذه الدولة إلى مستعمرة، لكنه جزء من الكعكة، لا شك هو الأهم والأكثر إثارة على الإطلاق، ولا يبدو أن أحدا قد يتنازل عنه.

وعلى من يسبق الآخر في امتلاك الأراضي الأوكرانية لا يعتمد فقط مستقبل أوكرانيا، وإنما أيضا إلى أي أحلاف سوف تنضم، ومستقبل الصراع في الدونباس، وعلاقة أوكرانيا بروسيا، وموقف أوكرانيا من القضايا الدولية المختلفة، بما في ذلك قضايا الشرق الأوسط.