ما وراء الإخفاق فى تحقيق الرفاه والوفاق

27.09.2016

إخفاقنا في تحقيق أحلام الرفاه والوفاق يفتح ملف الوهن الذي أصابنا جراء الرياح المسمومة التي هبّت على الأمة بعدما لاحت بوادر ربيعها.

(1)
صورة الناجين من كارثة السفينة المصرية الغارقة حافلة بالدلالات والإشارات. غرقت السفينة التي حملت أكثر من 450 شخصا قبالة مدينة رشيد على الساحل المصري فيما كانت حلب تحترق، وتعز تُذبح، وليبيا تنتحر، وكأن عالمنا العربي المجنون في سباق على الموت. اختلفت الأسباب والأقطار وظل الموت واحداً. فتساوى الذين قتلهم الصراع السياسي مع الذين قتلهم الهرب من الفقر والقهر، لكن الصورة المصرية أفصحت عن بعض التفاصيل المميزة. فالغالبية الساحقة من الشباب دون العشرين، الذين أداروا ظهورهم لنا وقرروا المغامرة والرحيل في «عام الشباب»، لم يصدقوا ما قيل ولم يجدوا أملًا يغريهم بالبقاء، ثم إنهم جميعا كانوا من الفقراء الذين استدانوا وحرروا إيصالات «الأمانة»، بعدما باع أهلوهم ما يملكون لتدبير نفقات المغامرة. عشرات قدموا من مختلف المحافظات من الغربية والدقهلية والبحيرة وأسيوط والفيوم.. إلخ. كأننا بصدد «منتخب» يمثل شباب مصر. وراء كل واحد منهم قصة مكررة، ظل اليأس والفقر قاسماً مشتركاً بينها. أغلبهم خاض المغامرة للمرة الأولى، ومنهم من عاودها. إذ فشلوا في مرات سابقة ثم عادوا أو أعيدوا إلى مصر، إلا أن واقع الفقر ظل أقوى من أن يُحتمل. كانوا يعرفون الكثير عن حجم المغامرة ومآلاتها، لكنهم أدركوا أن تلك المآلات من السجن أو التشرد والموت أهون من الواقع الذي صاروا إليه. فلا احتملوا عذاب البقاء ولا وجدوا أفقاً يمنحهم أملاً في المستقبل.

(2)
يحتمل المشهد كلاماً كثيراً. بدءا من بيان المتحدث العسكري عن الكيفية التي تم بها «إحباط» محاولة الهجرة وملابسات التأخر في إنقاذ الركاب وتركهم سبع ساعات يصارعون الموت. والحزن الذي خيم على الفضاء المصري ولم يجد سوى حزب «الوسط» الذي أعلن الحداد لمدة ثلاثة أيام (حين مات حفيد مبارك أُعلن الحداد في مصر مدة أسبوع)، ثم في الإجراءات التنفيذية التي اتُخذت لرعاية الناجين وحصر الغرقى والحد من الهجرة ومعاقبة السماسرة الذين يتاجرون فيها. وعلى أهمية ما سبق، فإن أكثر ما أثار انتباهي كان زيادة أعداد الشبان المهاجرين، (قوانين الاتحاد الأوروبي لا تسمح بإعادة من هم دون الثامنة عشرة إلى بلدانهم)، ثم تلك الإحصائية التي نشرتها جريدة الأهرام (في 23/9) وذكرت أن 71 في المئة من الشباب المصري يحاولون الهجرة غير الشرعية. ونسبتها إلى الدكتورة سميحة نصر من خبراء «المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية».

الملاحظ أنه إلى جانب النسبة العالية من الشبان المهاجرين، كان بين ركاب السفينة رجال اصطحبوا زوجاتهم وأطفالهم معهم. لم يكن هؤلاء فقراء فقط، ولكنهم كانوا يائسين أيضاً. فقدوا الثقة في الحاضر والمستقبل. وتلك ظاهرة جديرة بالرصد في الواقع المصري الراهن. ذلك أنه إلى جانب الكلام الكبير الذي يطلقه المسؤولون عن المشاريع العملاقة والمستقبل المشرق الذي يلوح في الأفق البعيد، فإن الرسائل التي تلقاها المجتمع، خصوصا هذه الأيام، حملت إليهم بشارات مناقضة تماماً. في الأسعار التي أصابها الجنون وفواتير الكهرباء والماء التي صدمت الجميع وقصمت ظهورهم. ذلك إلى جانب الفجوة الحاصلة بين الدخول التي تزداد اتساعا كل حين بين فئات غارقة في البذخ وأغلبية ساحقة غارقة في أوحال الفقر. وإذا أضفت إلى ذلك معدلات البطالة التي تتزايد مع استمرار توقف عجلة الإنتاج وموت السياحة التي كان يعيش عليها ثلاثة ملايين شخص، فإننا نجد ألف سبب وسبب لهيمنة اليأس والقنوط وحث الناس على الهروب من سفينة الوطن التي باتت مهددة بالغرق.

لقد كان مهماً لا ريب أن تتم مكافحة الهجرة وأن تتخذ التدابير التي تضيّق الخناق على الضالعين فيها، إلا أن السؤال الأهم الذي لم ينل حقه من التمحيص والدراسة هو: لماذا تحولت مصر إلى بلد طارد لشبابه الذين باتوا يفضلون التعرض للغرق والموت على البقاء على أرضه؟ ولماذا ازدادت معدلات الهجرة بعد الثورة، وإلى أي مدى أسهمت التطورات اللاحقة في إشاعة القنوط بين الشباب ودفعهم إلى محاولة الهجرة بأي ثمن؟

(3)
إذا وسعنا الدائرة وذهبنا إلى أبعد في التحليل والرصد، فسنجد أن السنوات التي أعقبت ثورة 2011 بما شهدته من تفاعلات وتجاذبات وتحولات أخفقت في تحقيق الإنجاز المنشود في أمرين، أولهما حلم الرفاه وثانيهما أمل الوفاق. والأول عنوان للواقع الاقتصادي والثاني عنوان للواقع السياسي. الأول أسهم في دفع الشباب إلى الهجرة إلى الخارج والثاني حوّل المجتمع إلى جزر منفصلة، متنازعة ومتحاربة. ومن ثم تنافست في المرارة والإحباط سلبيات الواقع الاقتصادي مع سلبيات الواقع السياسي.

مصر التي نعرفها والتي تمنيناها تغيرت. فقد تراجع فيها التسامح والود، وانقسمت بين أشرار وأخيار حيناً وبين محظوظين ومنبوذين حيناً آخر، وبين مواطنين مميزين من الدرجة الأولى لهم حظهم في السلطة والثروة وآخرين من الدرجة الثانية يستقبلون ويرسلون ويفوضون وهم في البيوت قاعدون. ما عاد صدر مصر متسعا لا لأبنائها ولا لجيرانها وأشقائها. وفيما كانت واحة وملاذا للهاربين من قهر الاستبداد والظلم السياسي والاجتماعي، فإنها أصبحت معبراً للهاربين من قهر الفقر ومذلّته.

ظلت مصر شقيقة بأمر الجغرفيا والتاريخ، لكنها لم تعد الشقيقة الكبرى، حتى قرأنا في تحليلات عدة أن قيادة الأمة العربية انعقدت لدول أخرى في المشرق، وذهب آخرون إلى أن القرار العربي انتقل من دول الماء إلى دول النفط. وسواء لأن الآخرين كبروا ـ ولهم الحق في ذلك ـ أو لأن مصر انكفأت على ذاتها وانشغلت بصراعاتها الداخلية، فالشاهد أن الفضاء العربي عانى من فراغ مؤرق، فتح الأبواب واسعة للعبث بمقدرات الأمة وقضاياها، كما فتح الباب لصراعات المصالح والمطامع والطوائف.

حين تراجعت رياح «الربيع العربي» التي أنعشت الطموحات والأحلام، فإن الرياح المعاكسة وزعت المرارات وأيقظت بذور الفتنة وأنعشت الكوابيس، فتراجعت حظوظ الأمة في مدارج التاريخ وتحولت من بؤرة إشعاع ومحط للأمل إلى مصدر لشقاء العالم المحيط. وبعدما كان تحرير الأمة هدفاً وفلسطين قضية مركزية وإسرائيل عدواً استراتيجياً، فإن كل ذلك المعمار انهار. إذ صار أمن الأنظمة بديلا من تحرير الأمة، وغدت القضية المركزية ساحة للمزايدة والعبث، وأصبحت إيران عدواً، وإسرائيل إما صديقاً وإما حليفاً. بل أصبحت الجيوش العربية تحارب على جبهات الداخل بأكثر مما تحارب أعداء الخارج.

حين ضعف القلب وأصابه الوهن ضعفت الأمة واستسلمت للقنوط فضلاً عن الاكتئاب. وحين حل بها الضعف تنامت في مفاصلها عناصر التحلل، واستخرج الجسم أسوأ ما فيه.

(4)
وقعت على مقالة نشرتها صحيفة «واشنطن بوست» (في 19/9/2016) عن اللوثة التي أصابت الولايات المتحدة جراء الخطاب الذي تبناه المرشح الرئاسي دونالد ترامب، المقالة كتبها سيباسيان مالابي الباحث بمجلس العلاقات الخارجية، وسلّط فيها الضوء على مظاهر الفتنة التي أشاعها خطاب ترامب. حين استدعت في الأميركيين أسوأ ما فيهم. فروّجت لخطاب سام أفسد المزاج الوطني بدعوته إلى كراهية مواطنيهم وانتقاصه من الأمة الأميركية وسخريته من التزاماتها الدولية وعلاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، وهو بلغته تلك أفقد الأميركيين تفاؤلهم المميز وشوّه من قدرتهم على التعايش في ظل المشكلات التي تواجه الواقع، حين صوّر تلك المشكلات بحسبانها عقبات تحول دون تقدم الأمة الأميركية، وفي ختام انتقاده للخطاب المسموم الذي تبناه ترامب طرح الكاتب على الأميركيين السؤال الآتي: إذا لم تتمكنوا من علاج المشكلات العديدة التي تعانى منها البلاد، فهل تستطيعون على الأقل إعادة اكتشاف موهبتكم القديمة في التعايش معاً تعايشاً بهيجاً؟

لا أخفي أني حين قرأت المقالة مرة واثنتين استحضرت واقعاً، إذ وجدت التحليل مهماً والسؤال وجيهاً، ذلك أننا لا نستطيع أن ننكر أن الرياح المسمومة التي هبّت على مصر والعالم العربي أحدثت فيه ما أحدثته من تشوّهات واستدعت ما نعرف من المرارات والفتن. الأمر الذي يسوّغ لي أن أعيد صياغة السؤال الذي طرحه الكاتب في مقالة «واشنطن بوست» بحيث يصبح كالآتي: كيف يمكن أن نتعامل مع مشكلاتنا بصورة تعيد إلى واقعنا زمن التعايش البهيج الذي عرفناه حين كنّا أمة واحدة، يراودها حلم التحرير والنهضة؟

ردي على السؤال أن ذلك ممكن لا ريب، في حالة واحدة تتمثل في إدراكنا حقيقة أن مصر هي المشكلة وهي الحل.

نشرت للمرة الأولى في "السفير"