فيدرالية الهويات الفئوية : من "وحدة المتعدد" إلى "تعدد الأحاديات(1/2)"

15.04.2016

تُسَوِّق الولايات المتحدة نفسها على أنها صاحبة هوية شمولية جامعة قادرة على توحيد جميع مكوناتها المتعددة والمتنوعة في كيان واحد يجمع كل أجزائها المتباينة.  ويتباهى أصحاب  شعار "التعددية في واحد" بالقدرة على جمع الكثير المتعدد في وحدة واحدة, مبرزين بذلك أهمية هذا الشعار الذي يشكل حجر الأساس في الايديولوجية الأمريكية. وهذا بالتحديد ما يفضح ازدواجية المعايير الايدلوجية المتبعة. فبينما تصر الولايات المتحدة على تصدير نموذجها من "الديموقراطية" إلى الخارج, تستخدم بنفاق واضح مقاربة محسوبة ومنتقاة تصطفي من خلالها الدول التي ينبغي ان تحافظ على هويتها الكلية الجامعة للمكونات المحلية المتعددة ضمن منظومتها وتلك التي يتوجب عليها إحياء المكونات الأحادية المتباينة عبر الدخول في بوتقة هذا  "الابتكار الجيوستراتيجي" الفريد.
تترجم العبارة الثانية نفسها على أرض الواقع بمقولة "ايجاد كثرة متعددة من الواحد الموحد". وهي مقولة تسير على النقيض تماما من طريقة إدارة الولايات المتحدة لشؤونها الداخلية. فبدل السلطة  المركزية القوية التي تحافظ على كيان الدولة (سواء كانت أحادية جامعة أم فيدرالية ادارية) , تسعى مقولة  " تعددية الهويات الفردية" الى إثارة الاختلافات والتبايانات الداخلية بين مكونات الوطن الواحد إلى الحد الأقصى ليتم الترويج بعد ذلك الى فكرة "التسوية الوسط" أو حل المشكلة عبر "تنازلات متبادلة" من خلال ما يسمونه "فيدرالية الهوية"  أي الفيدرالية المؤسسة على الهوية الفردية للمكونات المختلفة وغالبا ما يتم تحقيق ذلك  "كتسوية" لحروب أهلية كانت القوى الغربية قد أججتها أصلا.  على أرض الواقع, يبدو هذا مشابها الى حد كبير بما حدث في البوسنة  وغالبا ما يؤدي هذا الخيار  إلى فيدرالية متهاوية غير قادرة على الأداء وغير قادرة على الحفاظ على كينونتها الكلية.
في الدول التي يتم استهدافها لأسباب جيوستراتيجية, تدعم الولايات المتحدة وبشكل انتقائي تماما قيام طيف واسع من الدويلات التي تتمتع بقدر كبير من الاستقلالية ولا تحافظ سوى على صلات هشة فيما بينها ضمن فيدرالية هلامية بهدف الاستمرار في إضعافها على أمل إحداث  انهيارات متتالية في فضائها الاقليمي يحاكي التساقط المتتالي لأحجار الدومينو. يتم إحداث هذا الأثر عادة عبر حركات "شعبوية" مدعومة من الخارج.
يبدأ الجزء الأول من هذا البحث بشرح طبيعة "الفيدرالية المؤسسة على الهوية الفردية" ويدرس علاقتها  بالحروب الهجينة  مبينا بالتفصيل مالذي تعنيه مقولة "نحن مكونات متعددة" وملقيا الضوء على العلاقات المريبة فيما بينها وبين النمط الجديد من الحروب الهجينة. ثم  ينتقل الجزء الثاني ليتناول عددا من الأمثلة ويقدم "دراسة حالة" عن  بعض النماذج  ذات الصلة بهذا الموضوع, بما في ذلك حالتان يتم العمل على تطبيق النسخة الجديدة من "فيدرالية الهويات" فيهما  إضافة إلى أربع دول أخرى ذات أهمية جيواستراجية تعمل الولايات المتحدة على متابعة العمل فيها بهذا الاتجاه..أخيرا, يشرح الفصل الثالث أسباب اعتراض الولايات المتحدة الشديد على قيام "فيدرالية مؤسسة على الهوية الفردية" في كل من إسبانيا وأوكرانيا. ثم نختم برؤية استشرافية حول احتمالات تطبيق هذه الفكرة  في أمريكا الشمالية, مركز الأحادية القطبية, وخطورة ذلك على المؤسسة الأمريكية الحالية.
تعزيز الحرب الهجينة
يشكل مفهوم "فيدرالية الهوية" عنصرا أساسيا في السياسة الخارجية الأمريكية التي تعتمد على هذا المفهوم في رسم سياستها المتبعة في ظل النظام العالمي الذي ساد منذ نهاية حرب الخليج الثانية عام 1991.. وبدأ هذا المفهوم  يكتسب مزيدا من الأهمية في حقبة الحرب الباردة الجديدة.. تخطط الولايات المتحدة لجملة من الحروب الهجينة التي تنوي أن تشنها في طول الأرض وعرضها, إضافة إلى تلك المنخرطة فيها للتو.. لكن تصور الكاتب لهذه الاستراتيجية يختلف كليا عما تتحدث عنه او تروج له وسائل الإعلام الغربي السائدة (MSM). ففي كتابه حول الموضوع ذاته, يصف الكاتب  مفهوم الحرب الهجينة بأنه  استكمال  للثورات الملونة يتم تنفيذه على مراحل وبأنه نوع من الحروب غير التقليدية لزعزعة الاستقرار بهدف "تغيير الأنظمة". يركز الجزء التالي المتوقع  صدوره قريبا على التطبيقات العالمية  لهذه المقاربة.  ويتناول البحث الذي سيصدر تحت عنوان: "قانون الحروب الهجينة" هذا  المفهوم ليشرح ما يلي:
" الهدف الكبير والنهائي الذي يقف خلف كل حرب هجينة هو تعطيل ومنع قيام مشاريع بنى تحتية تواصلية (تصل بين الشعوب) في جميع البلدان والمناطق التي يمكن ان تمر بها هذه المشاريع (أي مناطق العبور أو الترانزيت) و ذلك من خلال إشعال  فتيل  الاقتتال والصراعات  الداخلية فيها بتحريض خارجي. 
يتم تنظيم وتحريك حالات عدم الاستقرار هذه  وتوجيهها عبر استخدام ستة عناصر سياسية-اجتماعية للتفرقة بين الناس في البلد المستهدف  على أساس:
- العرق
- الدين
- التاريخ
- التفاوت الاجتماعي الاقتصادي
- الحدود الادارية
- الجغرافية
قد لا يكون الهدف دائما هو الاطاحة بالحكومات, بل مجرد إحداث ما يلزم من اضطرابات كبرى بالقدر الكافي  لمنع أو عرقلة قيام مشروع البنى التحتية العابر للحدود بحيث لا تتمكن أطراف  النظام العالمي متعدد الأقطاب  من استكمال إنجازه لوصل بلدانها فيما بينها أو بحيث يصبح مثل  هذا المشروع عديم القيمة وغير قابل للحياة.. مما يؤدي في النهاية إلى تعليق العمل على تنفيذ المشروع المطروح  إلى أجل غير محدد أو إلى إلغائه كليا أو حتى تفكيك  مشروع قائم وايقاف العمل فيه.
في أغلب الأحيان, يتم اعتماد خطط "تغيير الأنظمة"  كونها أسهل وأبسط الطرق لتحقيق هذا الغرض. ولهذا السبب تحديدا نرى نمطية متكررة في استخدام سيناريوهات "الثورات الملونة"  المصنعة في المناطق المستهدفة.  قد يتعرض مثل هذا السيناريو في بعض الحالات إلى صعوبات معينة في التنفيذ وقد  لا ينجح في تحقيق هدفه الاستراتيجي. عندها سرعان ما يتم  الانتقال بخبث شديد إلى  المرحلة التالية الأكثر فعالية وان كانت أقل سهولة في التنظيم والتنفيذ ألا وهي مرحلة الحرب غير التلقليدية.
في سيناريو الحروب الهجينة, يتم اللجوء إلى استخدام " فيدرالية الهوية الفئوية " لقدرتها على لعب دورين أساسيين: فهي تقدم  "رؤية"  مقبولة  يمكن أن تجذب إليها  "جماعات ذات هويات انفصالية" مناهضة للحكومة يمكنها أن تتجذر وتشكل مركز ثقل  كافٍ  لتشكيل جبهة يمكن التنسيق معها في عمليات "تغيير الأنظمة".  ويمكن  الاعتماد عليها ثانيا في "طرح حلول توافقية"  تتيح لللحكومة أن تحفظ ماء وجهها من خلال الاحتفاظ بالسلطة بعد التوصل إلى بنود اتفاق جزئي مع الحركات المناهضة, لكنها  تضحي  بسيادتها الادارية على تلك المنطقة  التي  كانت محط  أطماع قوى العدوان الخارجية لأهميتها الجيواستراتيجية.  وبهذا المعنى, تكون فيدرالية الهوية عمليا عبارة عن استكمال أو تتمة للحرب الهجينة,  اذ يمكن استخدامها كأداة جاذبة لتوحيد وتجنيد المزيد من الأفراد لتصعيد الصراع ضد  الدولة في لعبة "تغيير الأنظمة"  ويمكن استخدامها من جهة أخرى, وللمفارقة, في تخفيف حدة التوتر من خلال  طرحها كآلية لتسوية  النواع والوصول إلى حالة من الجمود تحتفظ قوى العدوان الخارجي من خلالها  بقدرتها  على التدخل للحفاظ على مكاسبها الجيواستراتيجية.
الخط الرفيع الفاصل بين  فيدرالية الهوية والفيدرالية التقليدية:
إذا أجبرت دولة ما على  تطبيق مبدأ  فيدرالية الهوية, فإن هذه البلد سواء كانت تتمتع بوحدة وطنية أو  تقوم على فيدرالية تقليدية, ستصبح  عرضة  للتقسيم الاداري بناء على واحد أو أكثر من العوامل  الاجتماعية-السياسية التي ذكرناها آنفا, مع وجود تداخلات وتشابكات ستؤدي إلى إضعافها وإضعاف كيانها الموحد بشكل  خطير..  بلجيكا والبوسنة مثالان واضحان على "فيدرالية الهوية" التي قد تؤدي إلى التفكك مع  التفاوت الكبير في الظروف التاريخية التي أدت لقيام كل منهما .. والتي تختلف بدورها كل  الاختلاف عن الفيدرالية التقليدية الأكثر تماسكا وانسجاما  في كل من الولايات المتحدة وألمانيا  وروسيا.  التقسيم الفيدرالي في كل من البلدين (بلجيكا والبوسنة)  عبارة عن تقسيم ثنائي. فقد  تم تقسيم كل منها إلى وحدتين فيدراليتين منفصلتين فقط  مما يقلل نسبيا من مخاطر  نشوب نزاعات فيما بينها كتلك التي حذر منها الفيلسوف الانجليزي  توماس هوبيس على مبدأ (فرق تسد). لكنها لا  تستبعد في الوقت نفسه امكانية نشوب صراع بين  المكونين  المتنافسين.  كل من الولايات المتحدة و ألمانيا وروسيا مقسمة بالمقابل إلى وحدات فيدرالية أكثر عددا بكثير, لكن  اختلاف الهوية هنا لا يتم التعبير عنه من خلال  هده الوحدات الفيدرالية أي ان التقسيم الاداري لا يتم على أساس الهوية المتمايزة.. ومع ذلك فإن هذا لا يحميها من إمكانية  تأجج  خلافات انفصالية  قد تتسع بشكل دراماتيكي في حال حصول هيجان شعبوي تغذيه نزعات فئوية..
يركز البحث على النماذج والأمثلة التي خضعت لتجارب التفتيت من خلال  تأجيج نزعات الفدرلة الانفصالية المؤسسة على الهوية والتي تؤدي في نهاية المطاف إلى نشوء كيانات مجهرية غير  مترابطة تؤدي إلى تفكك  بنية الدولة..وهذه الحالات أو التجارب لا  تشبه بحال من الأحوال  الفيدراليات التقليدية  القائمة على  تجانس  مجتمعي سواء في الولايات المتحدة او المانيا او ورسيا. ففي  الفيدراليات التقليدية يتم تطبيق نوع من اللامركزية الادارية تحظى مناطق الدولة من خلالها بالمزيد من الحقوق والمسؤوليات لخدمة مصالح  ناخبيها او مكوناتها المجتمعية بينما تنطوي  فيدرالية الهوية على خطورة  تفكك هذه الوحدات إلى كيانات مجهرية قائمة على أساس مكوناتها المتباينة.. وتتعرض الكيانات الموحدة في دول مثل  سورية وجمهورية مقدونيا حاليا إلى مخاطر الفدرلة على أساس  الهويات الفئوية, علما أن هذا التوجه يتم من خلال  دعم  خارجي  كان  تم العمل والتخطيط له سابقا لتحقيق أغراض جيواستراتيجية معينة يسعى المخططون الخارجيون لتحقيقها.
التفكك الفدرالي
تطبيق مثل هذه الفيدراليات سيؤدي , كما شرحنا آنفا, إلى تفكك كيان الدولة الموحدة ونشوء عدد من الدويلات شبه المستقلة المنضوية تحت  مظلة "كيان موحد" شبه مستقل بدوره.  فبموجب هذه التركيبة ستكون الكيانات الناشئة أشبه بالاقطاعات منها إلى الوحدات الإدارية وسيحظى القائمون على كل "إقطاعية" بسيادة فعلية لإدارة شؤون "إقطاعاتهم" بينما لا تتمكن  الدولة من مباشرة مهامها في هذه المناطق التي تتولى مسؤوليتها إسميا وواقعيا.. وهكذا تتشظى الدولة التي كانت حتى حين موحدة إلى قطع صغيرة  تشبه قطع رقعة  الشطرنج ترتبط كل منها بالقوى الخارجية الكبرى التي عملت على إيجادها. وهكذا  يتم الاستغناء عن العلاقات بين الدول  ويحل محلها علاقات تقيمها الدول الكبرى مع كل جزء او مكون من المكونات  بشكل  مباشر مما يتيح  مزيدا من التحكم  بقراراتها وسلوكها. ولا يمكن النظر إلى مثل هذا النموذج من العلاقات إلا على أنه شكل من أشكال القبول الدولي الضمني  بقيام "إمارات حرب فيدرالية" يتحكم بها أمراء حرب أقاموا دويلاتهم على هذه الأسسس.
ولن تكون مثل هذه "الإقطاعات" الفيدرالية قادرة على تحقيق أي نوع من الاستقلال أو على النهوض بواجباتها, بل ستكون معتمدة على القوى التي أنشأتها مما سيضمن تبعيتها لهذه الدول  والقوى الخارجية, التي تسعى بالأساس لا إلى مساعدة هذه الكيانات بل إلى تحقيق أغراض جيواستراتيجية معينة كضمان ممرات معينة لمشاريعها أو عرقلة مشاريع مقابلة أو الحصول على أيد عاملة رخيصة أو نهب الثروات الطبيعية أو غير ذلك من هذه الأمور.. وهناك عامل  آخر  في منتهى الخطورة  عندما يقع الكيان الفيدرالي المقترح في  منطقة غنية بالموارد..  فقد يؤدي هذا إما إلى حرمان باقي  مناطق  الدولة من  المشاركة والاستفادة من هذه الموارد أو قد يؤدي إلى  هيمنة قرارها على قرار الدولة و خياراتها كلها اذا ما تمكن القائمون على هذه الفيدرالية من  الضغط على الدولة المركزية عبر  الموارد التي يتحكمون بها وعبر ممثليهم في  الدولة المركزية وعبر المساعدة الممنوحة لهم من الخارج,  فيتمكنون في مثل هذه الأحوال من مصادرة قرارات الدولة التي يتبعون لها اسميا ويتباينون معها فعليا.. وقد يمتد تأثيرهم هذا إلى الاساءة إلى باقي "الإقطاعات" المناوئة أو المنافسة..
فيدرالية الهوية والنزعة الانفصالية ليست سيئة أو سلبية بالضرورة, بل  تكون كذلك عندما يتم استخدامها كمسرح جيواسترايجي من قبل  قوى خارجية معينة.  والاختبار الحقيقي  لمثل  هذه الكينونة يتمثل في البعد التاريخي والثقافي والتوجه الحقيقي  لأنصار هذه المقولة وما إذا كانوا يتلقون الدعم من جهات خارجية معينة ولأية أهداف أو أغراض. فهناك فارق كبير من  يعملون على إحياء هويتهم و بين من يعملون كوكلاء لقوى خارجية, خاصة ان كانت هذه القوى رجعية أو استعمارية تسعى لتقويض كيان الدولة المستهدفة. لكن هذا كله  ينطبق على الفكرة الأصلية الأولى .. فبعد أن يدخل الصراع حيز التسليح, وخاصة في  هذه المرحلة من  الحرب  الباردة الجديدة, سوف  تدخل  مختلف  القوى الخارجية على الخط ولن يعود القرار فرديا بل  سنجد تدخلا و تداخلات عديدة من قبل معظم اللاعبين الاقليميين والدوليين.

المادة هي الجزء الأول من عرض، أعدته  وترجمته الزميلة زينب صالح ، لدراسة  طويلة عن الهوية الجامعة  وتعدد الهويات 
 بقلم أندرية كوريبكو،