عدم الاستقرار في تركيا

01.04.2016

قبل ساعات فقط من وقوع تفجيرات بروكسل، وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، ظهر مقال مدهش جداً على صفحة المعهد الأميركي المتشدد كثيرا والمؤيد لإسرائيل "معهد انتربرايس". كتب المقال السيد ميخائيل روبين المعروف بأنه أحد ناشطي المحافظين الجدد وتربطه علاقات قوية مع جماعة الكماليين التركية (على الأقل في الماضي وربما حتى الآن). كان عنوان المقال "هل سيحدث الانقلاب في تركيا؟". يتحدث الكاتب ضمن هذا المقال أن الجيش التركي سوف يسقط الرئيس رجب طيب أردوغان، ويؤكد الكاتب أنه ليس لدى الجيش التركي ما يخيفه من الولايات المتحدة وحلف الناتو أو أوروبا إذا فعل ذلك. وقد وصف الكاتب مصير أردوغان وحاشيته بأنه يشبه مصير مرسي وحاشيته في مصر.
لا يمكن النظر إلى هذا المقال في شكل منعزل عن بقية الأحداث. ففي العاشر من مارس/ آذار تحدث اثنان من السفراء الأمريكيين السابقين في تركيا حول هذا الموضوع، وهم وإن لم يذهبوا بعيدا ليقترحوا الانقلاب، فإنهم دعوا أردوغان للإصلاح أو الاستقالة كما كان يُظهر عنوان المقال الذي نُشر في الواشنطن بوست. أحدهما، السيد إيديلمان، ينتمي في الصميم إلى المحافظين الجدد، كان قد ساهم في شكل كبير في ظهور أردوغان، عندما كان المسؤولون الأمريكيون يبحثون عن شخصية صديقة لقيادة الإسلاميين بديلة لرئيس الوزراء السابق نجم الدين أربكان، والذي أطاح به الجيش التركي. أما الكاتب  الآخر المشارك في مقال الواشنطن بوست فهو السيد ابرافوميتز، الذي تجنب الانتماء إلى المحافظين الجدد ولكن مواقفه لا تختلف كثيراً عن مواقفهم. 
الكاتبان لا ينتميان إلى الخط المعروف لدى الصحافة الدولية بانتقاد أردوغان. بل إنهما يدعمان ولو في شكل غير صريح التيار الكمالي التركي داخل الجيش. وكما يذكر المقال "كانت محاولة حزب العدالة والتنمية لمحاسبة العسكريين الذين تورطوا في أعمال غير ديمقراطية هي محاكمة استعراضية لتوريط الخصوم السياسيين".
لا يمكن أن يتم فهم المقال إلا بربط محتواه مع خلفية الشخصين الذين كتباه والمؤسسة التي نشر فيها.

المحافظون الجدد "دولة داخل الدولة"
المعهد الأمريكي للأبحاث “انتربرايس” هو الذي أعد إيديولوجيا الحرب على العراق والحرب ضد "محور الشر" التي بدأتها حكومة جورج بوش، واعتمدت بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول في نيويورك عام 2001. وتم استغلال الأجواء السائدة في الولايات المتحدة الأمريكية بعد هذه الهجمات على برجي التجارة العالميين من أجل إحداث تغيير جذري في سياسة الولايات المتحدة نحو الشرق الأوسط. هذا التغيير أدى إلى إحداث المزيد من الفوضى ونشر الإرهاب كما نرى جميعا على شاشات التلفزيون.
الهجمات الإرهابية تساعد في شكل كبير أولئك الذين يريدون تغيير سياساتهم، لأن الإرهاب يدمر التفكير المنطقي ولنقل بشكل أفضل يغير التفكير العادي.
لقد كان السيد روبين عنصرا نشطا داخل المحافظين الجدد، ومن بين نشاطاته  العمل الذي أداه في مكتب سيء السمعة أنشأه وزير الدفاع الأمريكي الاسبق دونالد رامسفيلد في البنتاغون، وكان يعمل على وضع الخطط الخاصة لغزو العراق وإدارة الأوضاع فيه بعد ذلك. هذا المكتب هو أحد الأمثلة (القانونية من حيث الشكل) عن الطرق المستخدمة من قبل المحافظين الجدد لخطف والالتفاف على جميع المؤسسات الأمنية ومؤسسات القرار الأمريكية. نفس الأساليب استخدمت في أماكن أخرى مثل باريس عندما تم انتخاب الرئيس نيكولا ساركوزي، والتي قادت إلى التدخل في ليبيا وسوريا. وحتى في عهد أوباما فإن للمحافظين الجدد تأثيرهم في واشنطن وفي الإدارة نفسها.
لقد خلق المحافظون الجدد في الواقع "دولة ضمن الدولة". فقد ذكر غريج ميللر في مقاله المنشور في لوس أنجيلوس تايمز بتاريخ 9/3/2014 أن رئيس وكالة المخابرات الأمريكية السابق CIA جورج تينت كشف خلال شهادته أمام لجنة القوات المسلحة  في مجلس الشيوخ  أن "وحدة الاستخبارات الخاصة في وزارة الدفاع الأمريكية قدمت المعلومات التي  لديها قبل الحرب إلى كبار المسؤولين في البيت الأبيض حول العلاقات المزعومة بين العراق والقاعدة دون علم من مدير وكالة المخابرات المركزية".  ميلر يكتب أن هذا "الكشف يشير إلى أن مكتب "الخطط الخاصة" سيئ السمعة في وزارة الدفاع الأمريكية لعب دورا أكبر مما كان يعتقد سابقا في تشكيل وجهات نظر الإدارة حول العلاقات العراقية المزعومة مع الشبكات الإرهابية التي كانت وراء هجمات 11 سبتمبر/أيلول، وأن هذا المكتب تجاوز القنوات المعتادة لجعل القضية تتعارض مع استنتاجات المحللين في وكالة المخابرات المركزية ".
الاضطرابات في تركيا
ووفقا لدبلوماسيين مطلعين خدموا لسنوات عديدة في واشنطن وتركيا فقد كان للسيد روبين علاقات وثيقة وودية مع الدوائر الكمالية التركية في الماضي، ولكن هذه العلاقات اهتزت عندما اتهمها بـ "خيانة إسرائيل". ربما يحافظ الآن على علاقات مع بعضهم.
إن نشر المقال في موقع معهد انتربرايس الأمريكي  AEI يمثل بموضوعية أولاً تهديدا صريحا لأردوغان. وثانياً تشجيعاً مباشرا للجيش التركي الذي يرغب في التخلص من الرئيس للانتقام منه على ما فعله ضد الكماليين. قد تكون كإشارة مهمة ولا يمكننا استبعاد أن روبن والسفراء لديهم نفس القواسم المشتركة مع أصدقائهم الأتراك. ولكن هناك فارقاً بين إرسال الإشارة وبين تنفيذ الانقلاب والزمن وحده سيبين مدى هذا التطابق أو الاختلاف.
هناك صعوبات كبيرة لتحقيق مثل هذه الأشياء. أولا  أدت الحرب ضد حزب العمال الكردستاني إلى التحالف التكتيكي بين الكمالية وأردوغان، وثانيا لأن المجتمع التركي لم يعد كما كان عليه في السابق. إن عدم حصول الرئيس على الأغلبية التي أرادها العام الماضي هو بالضبط سبب نجاح سياساته الخاصة بمهاجمة وإضعاف السلطة التقليدية للجيش في تركيا. ولكن أردوغان ساعد بعض القوى الاجتماعية التي تحولت فيما بعد ضده، والتي ستدعم انقلابا عسكريا إذا ضمنت وجود من يستطيع فعل ذلك. ثالثا، لا أحد يمكن أن يكون متأكدا من تداعيات مثل هذا الانقلاب، الذي من شأنه أن يكون حقا مؤثرا في كل من تركيا والإقليم وعلى المستوى الدولي.
كل من يعرف التاريخ التركي يجب ألا يستبعد  سيناريو الانقلاب. إن استخدام الرئيس التركي لتلك الأساليب السلطوية سيوسع القوى الاجتماعية التي تريد التخلص منه. أما إذا كان متساهلا مع الأكراد فسوف يخسر الجيش.

بين الشرق والغرب
كما تصل جسور اسطنبول بين آسيا وأوروبا فإن تركيا دولة بين هاتين القارتين. يسعى قادتها، كل بطريقته الخاصة، لتحقيق التوازن بين هذين العالمين وبين الهويتين التركيتين الأوروبية والآسيوية. وهذا ما يسبب اختلاف الرؤيتين الكمالية والإسلامية حول مختلف القضايا. إنهم يحلمون أن يكونوا الأصدقاء الأفضل للغرب في الشرق، ويريدون أن يكونوا قادة العالمين العربي والإسلامي في نفس الوقت. إن من الصعب تحقيق ذلك خاصة في سياق حروب مستمرة ضد "محور الشر"  في الشرق الأوسط و "صدام الحضارات".
وفي الآونة الأخيرة تعرضت سياسة أردوغان حول الشرق الأوسط وحول الأكراد لانتكاسات بل ربما انهارت. ومما زاد الطين بلة قيام قواته المسلحة بعمل انتحاري بإسقاط الطائرة الروسية حيث دمر "عمقه الاستراتيجي" كما يحب أن يسميه رئيس الوزراء ومهندس السياسة الخارجية وفق مبدأ "صفر مشاكل"  أحمد داود أوغلو. إن هذا العمق الاستراتيجي كانت تمثله روسيا.
تبقى علامة استفهام واحدة، هل أسقط  أردوغان طائرة السوخوي بعد أن استلم إشارة خضراء من حلفائه؟ وممن تلقى تلك الإشارة ولأية أسباب؟
بعد هذه العزلة الأكبر من أي وقت مضى، بعد إسقاط الطائرة الروسية، تحول أردوغان إلى إسرائيل، لكن التقارب مع نتنياهو يطرح أيضا مشاكل بالنسبة له. الأول أيديولوجي  والثاني هو أن الإسرائيليين يطالبون دائما بالثمن الذي يتعين دفعه وهو قطع العلاقات مع الفلسطينيين في قطاع غزة. إن مثل هذا التحالف يقدم هدايا تكتيكية ويكلف خسائر إستراتيجية. لقد أخطأ سابقا بين الاختيار التكتيكي والاستراتيجي عندما دخل الحرب مع الغرب ضد معمر القذافي وبشار الأسد فأصبحت خسارته لا تعوض.
أما بالنسبة للمحافظين الجدد  فمن الحماقة أن نعتقد أنهم صرفوا النظر عن  خطتهم في سوريا (إسقاط الأسد، تمزيق البلاد وتدمير حزب الله) التي لم تنجح على الأقل في الوقت الحاضر بعد التدخل الروسي. إنهم يبحثون بالفعل عن سبل أخرى لتحقيق أهدافهم الإستراتيجية وإنهم سوف يعملون بشكل دائم في محاولة لزعزعة استقرار المنطقة برمتها.
المحافظون الجدد لديهم ميزة كبيرة مقارنة مع منافسيهم بأن لديهم إستراتيجية واضحة يستمروا عليها، بينما يتميز خصومهم بعدم وجود الرؤيا الشاملة فهم كثيرا ما يحتجون ويعترضون ولكن ليس لديهم الرؤيا الموحدة وليسوا متحدين.