روسيا تواجه العقوبات بهدوء... وأمريكا حشرت في الزاوية
يوما بعد يوم يزداد الثمن الذي تدفعه روسيا لاستعادة موقعها الذي تستحقه كدولة عظمى، فخلال شهر تقريبا، توالت الأفعال المعادية عليها من أميركا والاتحاد الأوروبي، فمن عقوبات حول كوريا الشمالية، إلى عقوبات حول "قضية سكريبال" والتي تم تطبيقها في 27 آب/أغسطس، إلى عقوبات حول الأمن السيبراني، إلى عقوبات حول القرم، إلى سقوط طائرة عمال نفط في 4 آب/أغسطس ومصرع 18 شخص كانوا على متنها، إلى حريق البنك المركزي في 24 آب/أغسطس، فحريق مبنى سكني في موسكو في 26 آب/أغسطس، إلى اعتقال مواطنين روس في أميركا والتضييق على دبلوماسييها هناك، إلى مصرع ثلاثة صحفيين روس في أفريقيا الوسطى في 30 تموز، إلى محاولات فاشلة لمهاجمة قاعدة حميميم بطائرات مسيرة.
وكما يقال "تهون علينا في المعالي نفوسنا .. ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر"، فإن "على قَدرْ التضحيات تنال المكانة الدولية والانتصارات العالمية"، وكل شيء يهون عند كرامة الأوطان وعزتها.
وفي سياق الأفعال المعادية، جاءت تصريحات الإدارة الروسية صلبة، والتي تؤكد على قيادة موحدة ومتماسكة، على نقيض الإدارة الأمريكية الغير منسجمة، فقد اعتبر الرئيس بوتين، العقوبات الأمريكية على موسكو "من دون معنى وتعطي نتائج عكسية"، معربا عن أمله في أن تعي واشنطن في النهاية عدم جدوى مثل هذه السياسات. وقال: "هذه العقوبات لا معنى لها، ولا تجدي مع دولة مثل روسيا". وأضاف، "الأمر لا يتعلق بموقف رئيس الولايات المتحدة، بل باستقرار الطبقة الحاكمة هناك.. آمل في أن يدركوا بأن هذه السياسة عقيمة.. وأنا واثق بأن هذا الإدراك سيصل يوما ما إلى شركائنا الأمريكيين، وسنبدأ التعاون من جديد ".
واعتبرها رئيس الوزراء الروسي دميتري مدفيديف، بمثابة إعلان حرب اقتصادية. وفي معرض حديثه عن العقوبات التي تم الإعلان عنها، أشار ميدفيديف: "بلدنا موجود في المائة عام الماضية في ظل ظروف ضغط العقوبات الدائمة. لماذا يتم القيام بذلك؟ من أجل إخراج روسيا من بين المنافسين الأقوياء على الساحة الدولية".
في حين وصف الناطق باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف هذه العقوبات بأنها غير شرعية، مشيرا إلى أن ربط العقوبات ضد روسيا بحادثة سالزبوري أمر غير مقبول.
وفي مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره التركي، مولود جاويش أوغلو، في 14 آب/أغسطس، في أنقرة، أوضح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن هذه السياسة لا يمكن أن تكون أساسا للحوار الطبيعي، ولا يمكن أن تستمر لفترة طويلة. وأضاف أن العقوبات غير قانونية وهي إجراءات أحادية الجانب، وتنسف كل اتفاقيات التجارة العالمية.
وأكد لافروف أنه لم تقدم "الولايات المتحدة أو بريطانيا أو أي دولة أخرى حقيقة واحدة بعد حادثة سالزبوري تؤكد مثل هذه الادعاءات".
من جهتها اعتبرت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، الحجج لفرض العقوبات الجديدة افتراضية، مضيفة أن موسكو تدرس مسألة فرض عقوبات جوابية على الولايات المتحدة.
وقال نائب وزير الخارجية الروسية سيرغي ريابكوف، في 23 آب/أغسطس، إن الرد الروسي على العقوبات الأمريكية، يجب أن يزيد قوة تحمل اقتصاد روسيا ويحررها من الاعتماد على الدولار الأمريكي.
وأضاف ريابكوف في تصريحات خاصة لـ"سبوتنيك" أن روسيا تحلل بتمعن كل التصريحات الأمريكية عن العقوبات، مشيرا إلى أنها "غير مبررة وليس هناك فرصة أمام الولايات المتحدة لتحقيق هدفها منها".
من جهته، أعلن نائب وزير المالية الروسي، أليكسي مويسييف، في 22 آب/أغسطس، أن رد روسيا على العقوبات هو إنشاء نظام مالي داخلي مستقل حقا، لا يعتمد على النظام المالي العالمي، بشكل مطلق.
وينظر إلى العقوبات الاقتصادية باعتبارها حروب من غير نار كما الأمن السيبراني، وهي الخيار الأخير ضمن الخيارات المتاحة في إدارة الصراعات السياسية بين الدول قبل اللجوء إلى الخيارات العسكرية المباشرة، وتعتبر أيضا تدخلات عسكرية غير المباشرة، فهي في نهاية المطاف ليست إلا نوعا من الفرض والإكراه لدفع الدول للاستسلام لإرادة دولة أخرى. وقد تنشب حروب على أثرها، إذا ما شكلت العقوبات حصارا خانقا للدولة يصعب تفاديه أو مساسا بأمنها.
وقبل دخول الإجراءات الأمريكية المعادية لروسيا حيز التنفيذ في 27 آب/أغسطس، بعث ترامب برسالة إلى الرئيس بوتين، ثم التقى الرئيس الفنلندي، ساولي نينيستو، الرئيس بوتين في سوتشي، كما اجتمع رئيس مجلس الأمن الروسي، نيكولاي باتروشيف، بمستشار الأمن القومي الأمريكي، جون بولتون، في جنيف، في محاولات على ما يبدو لثني روسيا عن مواقفها تجنبا للعقوبات، ولكن موقف روسيا كان واحدا منذ بداية التهديد بالعقوبات قبل شهر تقريبا، فكلف بوتين لافروف لرئاسة الوفد الروسي إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، واستنكف أن يحضر شخصيا إلى نيويورك.
ومع ذلك، تستمر واشنطن بمخالفتها للعقل والمنطق والمواثيق الدولية، بفتح جبهات حرب اقتصادية كثيره على نفسها فمع إيران وروسيا والصين والاتحاد الأوربي وتركيا، إلى التهديد بعقوبات ضد أي دولة تشتري إس-400 الروسية، ولكن حصة الأسد نالتها روسيا وإيران ولعدة مرات خلال الأعوام السابقة، فأميركا قد امتطت حصان العقوبات، بعد أن فشلت سياسيا وعسكريا وتقنيا وعلميا وفي عدة جبهات بكبح تقدم روسيا، فمتى تسقط منه – كما سقطت من حصان العسكرة، والذي لا اعتقد أنها ستحاول معه مرة ثانية، فهي بالكاد استطاعت إخفاء فشلها بفتح حروبها التجارية والاقتصادية، وان عادت فسيكون الفشل كارثيا - وإذا سقطت من حصان العقوبات، فخسائر كبيرة ستدفعها، وقد يكون أقلها هو انهيار اقتصادها! فالعقوبات محكوم عليها بالفشل، فما لم ينجح بالعسكرة والسياسة لن ينجح مطلقا بالحروب الاقتصادية، وخصوصا مع دولة متمكنة كروسيا.
وكلنا نذكر، أنه بعد يوم على فشل العدوان الثلاثي على سوريا، في أبريل/نيسان الماضي، هددت مندوبة أميركا في مجلس الأمن، نيكي هيلي، بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا، ولكن أميركا تراجعت بعد أن هددت روسيا بضرب القواعد الأمريكية وقتها، ولذا فإن أميركا لم تقدم على هذه المغامرة الأن ألا إذا حشرت بالزاوية الضيقة فيما يخص العراق والقضايا الأخرى بين البلدين.
وكان الرئيس الأمريكي قد تفاخر بالحروب التجارية على الصين وغيرها من البلدان حيث قال "أنها معارك سهل الفوز بها"، فهل من عاقل يفتح على بلده عشرات الجبهات مرة واحدة! ولكن أميركا مخنوقة ومضطرة لخوض هذه المغامرة لعلها تنجح بضربة حظ للمقامر ترامب، ولكني على يقين انه لم يحسبها بشكل سليم كما الضربة الثلاثية على سوريا وغيرها، وكما يقال " إذا كان الغراب دليل قوم .. فما دلهم إلا على الخراب"، ومع الأسف يحصل كل هذا لشعب عظيم كالشعب الأمريكي، والذي يعارض العقوبات في استطلاع للرأي نظمه معهد Gallup الأمريكي للدراسات الاجتماعية، نشر في 21 آب/أغسطس. ولكنها نتيجة تراكم السياسات الغير صحيحة للإدارات الأمريكية المتعاقبة.
ولم يُخيبْ ترامب ظننا به، فأضحكنا كثيرا عندما وصف مستشارته السابقة في البيت الأبيض بألفاظ غير مناسبة ولا تليق برئيس دولة، وتَلتها العديد من الفضائح اللاأخلاقية، باعترافات محاميه السابق، حتى أصبح مثال للسخرية حول العالم، فهو تلميذ البريطاني شارلي شابلن، حيث وصلت الأمور قبل أيام، لمحاولات المعادين له في أدارته لإنهاء خدماته قسرا في البيت الأبيض.
وجاء تصريح وزير الخارجية البريطانية، ليزيد الطين بلة، فبدلا أن يكون داعي خير بين الأطراف ليجنب الأبرياء حول العالم مزيدا من المعاناة، يدعو الاتحاد الأوروبي لمزيد من العقوبات على روسيا وقبلها كانت هلهلة بريطانيا للعقوبات، فكان كلامه ضعيفا وغير منسجم مع الواقع ومهزوزا كونه مبني على فبركة للحقائق، فقد نسي أنه عندما يلعب الكبار على الصغار أن يسكتوا ويتفرجوا!
ولكن ما جدوى هذه الإجراءات الأمريكية، فلم تحقق أي شيء لها من سنوات، وأتت النتائج معاكسة تماما، فروسيا تزدهر وتنمو وتحقق النتائج على مختلف الأصعدة، وأي مراقب منصف يتكلم عن ذلك، فبماذا نذكرهم، هل نذكرهم بأحلى وأنجح كاس عالم 2018، أم نذكرهم بانتصار باهر وشيك بحرب كونية في سوريا، أم بإنجازات عسكرية وعلمية غير مسبوقة. روسيا بكل تأكيد لديها الإمكانيات للرد على هذه الإجراءات، ولكن أن نرى هذا التخبط الأمريكي، وفقدان التوازن، وهستيريا العقوبات على عدة جبهات، فهو أمر جميل جدا ومصدر فرحة للشعوب التي حاربتها أميركا، فهي أكبر ممول وراعي للإرهاب.
وفي تأكيد على عدم جدوى العقوبات، حافظت وكالة التصنيف الدولية Fitch على تصنيفها لروسيا عند مستوى "BBB-" مع توقعات إيجابية، في 18 آب/أغسطس، مشيدة بحفاظ الاقتصاد الروسي على اتزانه وعدم تأثره بالعقوبات.
وكتبت الوكالة في تقريرها: "تعامل الاقتصاد الروسي بشكل جيد مع الحزمة الجديدة للعقوبات الأمريكية ضد روسيا التي أعلن عنها في أبريل، رغم التقلبات الابتدائية" ومنها ارتفاع سعر صرف العملات الأجنبية، وخاصة الدولار الأمريكي أمام الروبل الروسي.
ومن الجوانب الإيجابية، أشارت الوكالة إلى وجود توازن مالي قوي واستمرار تدفق التمويل الخارجي المضمون وثبات السياسة الاقتصادية العامة لروسيا الحاظية بالثقة.
موسكو تمتلك اليوم أوراق ضغط كثيرة على واشنطن، منها ورقة العلاقات التجارية مع الصين، وورقة كوريا الشمالية، وبإمكانها استغلال تقدمها العسكري بأقصى طاقة لإفشال العقوبات ومنها تزويد عدد من الدول بأسلحة متطورة تقلب التوزان الاستراتيجي في بقاع مختلفة من العالم، وحتى لو زودت أميركا حلفائها بأسلحة مشابهة، فان اليد العليا ستكون للسلاح الروسي الذي اثبت متانته وفعاليته، كما يمكن لروسيا الاتكال على حلفائها، الصين وإيران وتركيا ومجموعة الاوراسية ومجموعة البيركس والعراق وسوريا، لتجاوز العقوبات وإيجاد البديل، فهذه الدول مع روسيا تشكل قوة اقتصادية كبرى.
وعلى ما يبدو، فأن الوقت قد حان لإنشاء تحالف استراتيجي في قضايا السياسة الخارجية والاقتصادية بين هذه الدول. فلا يجوز ترك روسيا لوحدها، رغم أنها لا تحتاج لهذه الفزعة الأن، فروسيا أثبتت أنها الظهر المنيع الذي يمكن الارتكاز والاطمئنان إليه عند الشدة، فكلنا يتذكر كيف فتحت القيادية الروسية مخازن الجيش الروسي للعراق في 2014، وزودته بمروحيات صياد الليل الحديثة وطائرات سوخوي لمواجهة هجمة داعش، في حين أن أميركا، وبالرغم من دفع العراق لثمن طائرات أف 16، لم تسلمها ألا بشروط قاسية لاستعمالها، وبعد منع طياري أكبر طائفة عراقية من التدريب عليها، وبعد أن استمكن داعش من اغلب المحافظات العراقية.
كما يمكن لروسيا، استخدام القمح والنفط والغاز في هذه المواجهة، واستغلال تألق قناة آر تي لفضح عيون وخبايا الاقتصاد الأمريكي بشدة. ويفترض ألا تمس العقوبات المواطن الروسي بتقليل سعر صرف الروبل، ولذا فقد يكون من المفيد عند الحاجة تزويد المواطنين بما يحتاجون من مواد بأسلوب الدفع بالأجل "كوبونات" وضمن حدود لا تسمح للمواطن بإرهاق كاهله بالدين، على أن تتوالى الدولة ضمان العملية بالكامل فيما يخص حقوق الأخرين، وبهذه الطريقة ستنتعش العملة المحلية.
وعلى الأكثر، فان واشنطن اختارت الهروب للفضاء بتشكيلها قوة فضائية، في محاولة أخيرة للضحك على ذقون البسطاء، وكما فعلتها في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بالفانتوم الشهير، ومكوكات الفضاء والتي وضعت بالمتاحف وهي في عز شبابها بعد انفجار كولومبيا وتشالنجر، وغيرها من الإنجازات العلمية والعسكرية والذي أثبتت الأيام بانها مجرد خردة أمام التكنلوجيا الروسية. ولذا فليس بغريب أن يعلن، في 31 تموز، عن فشل تجربة صاروخ "مينيتمين 3" الباليستي العابر للقارات حين إطلاقه من قاعدة "فاندنبرغ" الجوية بولاية كاليفورنيا الأمريكية.